قلنا : أما قولهم : كان مختصا بهم ، والتمتع إنما كان بالفسخ ، فعنه أجوبة: - فسخ الحج
أحدها : أن الفسخ حكم ثابت في حق جميع الأمة كما سنبينه إن شاء الله ، فمتعته كذلك ؛ ولهذا مذهب أحمد وأصحابه : أن المستحب لمن أحرم بحج مفرد ، أو بعمرة وحج ، وأحرم إحراما مطلقا ، أو أحرم بمثل ما أحرم به فلان : أن يفسخوا الحج إلى العمرة ويتمتعوا بالعمرة إلى الحج امتثالا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاعة له ، وإن كان بعض العلماء لا يجيزه فليس لأحد مع السنة كلام ، ولا يشرع الاحتراز من اختلاف يفضي إلى ترك ما ندبت إليه السنة ؛ كما [ ص: 502 ] استحببنا التطيب قبل الإحرام ، وبعد الإحلال الأول اتباعا للسنة ، وفي جوازه من الخلاف ما قد علم ، وكما استحببنا التلبية إلى أن يرمي جمرة العقبة ، وفي كراهته من الخلاف ما قد علم ، ونظائره كثيرة .
الثاني : أن أمرهم بالمتعة تضمن شيئين : -
أحدهما : جواز الفسخ .
والثاني : استحباب التمتع واختياره ، فإذا بطل أحدهما لم يبطل الآخر ، وهذا لأنه لو لم تكن المتعة أفضل من غيرها لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اختار لأصحابه ما غيره أفضل منه ، وحضهم على ذلك ، والتزم لأجله فسخ الحج ، وبين [ ص: 503 ] أنه إنما منعه من التحلل معهم سوق هديه ، ولا يجوز أن يعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يختار لهم ما غيره أفضل منه .
الثالث : أن في حديث المتفق عليه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " عائشة " . وهذا نص في أن من أحب أن يهل بعمرة فليهل ، ومن أحب أن يهل بحج فليهل ، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة أفضل ، وقال أيضا . . . الإهلال بالعمرة لغير المهدي
الرابع : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في آخر الأمر بمكة : " " وفي لفظ : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة " . فبين أنه - صلى الله عليه وسلم - لو كان ذلك الوقت مستقبلا للإحرام الذي استدبره : لأحرم بعمرة إذا لم يكن معه هدي ، وهو لا يتأسف إلا على فوات الأفضل . فعلم أن من لم يسق الهدي فإن الأفضل له العمرة . لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت
وأما قولهم : إنما تأسف على الموافقة :
قلنا : في الحديث ما يرد هذا ، فإنه قال : " فرأى أن الفضل في الإحلال " . هكذا في حديث جابر ، ثم ذلك في سوق الهدي ، أي : لو استقبلت من أمري ما سقت الهدي موافقة لكم ، وإن كان سوق الهدي أفضل ، لكن إذا لم يسق الهدي فقد بين أنه يحل من إحرامه ، ويجعلها عمرة ، مع أنه لا ضرورة إلى هذا ، فلو كان هذا مفضولا مع ترك سوق الهدي ، لكان قد اختار لنفسه ولأصحابه ما غيره أفضل منه ، وذلك غير جائز .
[ ص: 504 ] والدليل على أن جائز ، وأنه هو الأفضل من المقام على الحج لمن يريد أن يحج ويعتمر في سفرة واحدة ، هذه الأحاديث الصحاح الصراح التي ذكرناها مع ما احتج به فسخ الحج إلى العمرة من ظاهر القرآن . ابن عباس
قال أحمد في - رواية عبد الله - : كان يختار المتعة من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالإحلال ، قال : ثنا ابن عباس يحيى بن سعيد ، عن قال : أخبرني ابن جريج قال : قلت له : من أين كان عطاء أخذ أنه من طاف بالبيت فقد حل ؟ قال : من قول الله عز وجل : " ابن عباس ثم محلها إلى البيت العتيق " ومن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع ، فكأن رأى أن الشعائر : اسم يجمع مواضع النسك ، كما قال تعالى : " ابن عباس إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، وقال : " المشعر الحرام " ، ويعم الأفعال التي يفعلها الناسك ، ويعم الهدايا التي تهدى إلى البيت . وبين أن محل . . .
[ ص: 505 ] وأما قوله : إن الفسخ لا يجوز إلا لذلك الوفد خاصة ، فغير صحيح لوجوه : -
أحدها : أن ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، وحيث ما خص الواحد بحكم ، فلا بد أن يكون اختصاصه بذلك الحكم لعلة اختص بها ، لو وجدت في غيره لكان حكمه حكمه ، ولا بد من دليل على التخصيص كما قال ما ثبت في حق الواحد من الأحكام ثبت في حق جميع الأمة في الأضحية : " لأبي بردة بن نيار " ؛ لأنه كان قد ذبح قبل أن [ ص: 506 ] يسن وقت الأضحية ، وكما خص تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك سالما مولى أبي حذيفة بأن يرضع كبيرا ؛ لأنه قد تبني قبل أن يحرم سبحانه - أن يدعى الرجل لغير أبيه .
ثم إن التخصيص يكون لواحد ، وهنا أمر جميع من حج معه بالتحلل ، وقد أمر من بعدهم بالاقتداء بهم ، فلو كانوا مخصوصين بذلك لوجب بيانه وإظهار ذلك وإشاعته ، وإلا فلو ساغ دعوى مثل هذا ؛ لساغ أن يدعى اختصاصهم بكثير من الأحكام ، وحينئذ ينقطع اتباع غيرهم له وإلحاقهم به ، وفي هذا تعطيل للشريعة ، وما ذكروه من مستند التخصيص سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى .
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين بيانا شافيا أن هذه العمرة - المتمتع بها التي فسخ الحج إليها - حكم مؤبد إلى يوم القيامة ؛ لما أطلعه الله عليه أن سيكون قوم يدعون أن هذه كان مخصوصا بهم .
ففي صحيح مسلم من حديث جابر : " سراقة بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا ، أم لأبد ؟ فشبك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى وقال : دخلت العمرة في الحج مرتين ، لا بل لأبد أبد " وفي رواية حتى إذا كان آخر طواف على [ ص: 507 ] المروة ، قال : لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة . فقام : " للبخاري سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة وهو يرميها ، فقال : ألكم هذه خاصة يا رسول الله ؟ قال : لا ، بل للأبد " . وفي حديث أن : " ابن عباس " . فأمرهم فجعلوها عمرة ، ثم قال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما فعلوا ، لكن دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ، ثم أنشبت أصابعه بعضها في بعض
فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن ذلك الذي فعلوه ليس لهم خاصة ، وإنما هو للأبد . ولا يجوز أن يقال : إنما أشار إلى العمرة قبل الحج ، وهو التمتع فبين أن التمتع جائز إلى يوم القيامة ، ولم يقصد الفسخ ؛ لما روى في مسألة أفردها في الفسخ عن ابن بطة أن جابر بن عبد الله سراقة بن مالك بن جعشم " " ، وفي لفظ آخر : " سأل [ ص: 508 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أرأيت ما أمرتنا به من المتعة وإحلالنا ، لنا خاصة أو هو شيء للأبد ؟ فقال : بل هو للأبد " . وهذا نص في أن المراد فسخ الحج إلى عمرة التمتع ، وأن حكم ذلك باق إلى الأبد . قال : يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أم للأبد ؟ قال : بل للأبد
وروي أيضا عن قال : " طاوس علي هو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفسخ لمدتنا هذه ، أم للأبد ؟ قال : للأبد " .
وعن قال له رجل : " طاوس " ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى الذي فعلوه ، والذي فعلوه أنهم قدموا ينوون الحج لا يعرفون العمرة ، [ فقال لهم : إذا طفتم بالبيت وبين من سنتنا هذه ؟ قال : لا ، بل للأبد الصفا والمروة فحلوا من إحرامكم واجعلوها عمرة ] إلا من ساق الهدي " . وسياق حديث جابر واضح في ذلك ، والتمتع المحض لم يجر له ذكر ولا فعله عامتهم ، وإن كان قد فعله قليل منهم ، وقد قال له سراقة بن جعشم : " " . وقوله : عمرتنا هذه صريح في العمرة التي تحللوا بها من حجهم . أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا ، أم للأبد ؟ قال : للأبد
وأيضا : فإنه لو كان هذا هو المقصود لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولم يطلق الجواب إطلاقا ، بل قال : أما المتعة فجائزة ، وأما الفسخ فخاص لنا ؛ لأن السؤال وقع عما فعلوه ، فلو كان مشتملا على ما هو لذلك العام وللأبد ، لوجب تفصيل الجواب .
وأيضا فقوله : " دخلت العمرة في الحج مرتين " نص في أن الحج تدخل [ ص: 509 ] فيه العمرة إلى يوم القيامة ، وهو يعم ، سواء كان نوى العمرة أولا ، أو نوى الحج ، أم حل من إحرامه . ولا يجوز أن يقصد به القسم الأول فقط ؛ لأن سبب الحديث هو القسم الثاني ، وسبب اللفظ العام لا بد أن يكون داخلا فيه لا يجوز إخراجه منه ، وظاهره أن كل حج يجوز أن يدخل فيه عمرة ، سواء كان قد أحرم بها ابتداء ، أو حل من الحج بعمرة ثم أهل بالحج . وليس المراد بذلك جواز فعل العمرة في أشهر الحج ، سواء حج أو لم يحج ؛ لأن قوله في الحج حقيقة في الفعل ، ولا سيما وقد شبك - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه ، واليدان كل واحدة منهما من جنس الأخرى ، فلا بد أن يكون الداخل من جنس المدخول فيه . الاعتمار قبل الحج
وأيضا : فقد قال سراقة بن جعشم هذا وهو بعسفان : " الصفا والمروة فقد حل ، إلا من كان معه الهدي " فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك الحج الذي حجوه قد أدخل الله عليهم فيه عمرة ، وإنما ذلك بأن يحلوا من الحج ويجعلوها عمرة ، ثم بين أن اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم ، فقال : إن الله أدخل عليكم في حجكم عمرة ، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين . فهذا نص قاطع لا خفاء به : أن كل حاج له أن يدخل في حجه عمرة ، سواء كان أحرم من الميقات أو أحرم أولا بالحج . إدخال العمرة في الحج إلى يوم القيامة
وأيضا : فإن كل من أم هذا البيت يريد الوقوف بعرفة فهو حاج من حين يحرم من الميقات وإن أحرم أولا بالعمرة ، فإذا اعتمر في هذا الحج فقد أدخل في حجته عمرة ، فلا معدل عن هذا الأمر الواضح البين .
وأيضا : فإنه إذا اعتمر في أشهر الحج وحج ، فقد أدخل العمرة في الحج ، وإن [ ص: 510 ] لم يحج ذلك العام فلم يدخلها .
وأيضا : فلو كان معناه جواز لكان هذا قد علموه قبل ذلك ، حيث اعتمر في ذي القعدة ثلاث عمرات ، وأيضا . . . العمرة في أشهر الحج
الوجه الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن ليس هو شيئا خارجا عن القياس ، وتغيظ على من توقف فيه ، وقد اعترضوا عليه بمثل ما يعترض به بعض أهل زماننا ، فالاعتراض عليه نفثة من الشيطان في نفوس الناس . فسخ الحج إلى العمرة
قال جابر : فقال لهم : " الصفا والمروة ، وقصروا ، ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة ، فقالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج ؟ فقال : افعلوا ما أمرتكم ، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ، ففعلوا " وفي رواية أحلوا من إحرامكم بالطواف بالبيت وبين مسلم : " فقلنا عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا ، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني " قال : لما لم يكن بيننا وبين جابر : فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا فقال : " " . وهذا كله يدل على أن ذلك أمر حسن مباح في نفسه ، وأن توقف من توقف فيه خطأ عظيم ؛ ولذلك تغيظ عليه كما تغيظ على من توقف عن الإحلال في عمرة [ ص: 511 ] قد علمتم أني أتقاكم لله ، وأصدقكم ، وأبركم ، ولولا هدي لأحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، فحلوا . فحللنا ، وسمعنا وأطعنا الحديبية ، وكما تغيظ على من تحرج عن القبلة للصائم وقال : " " وكما تغيظ على من كره أن يصبح صائما وهو جنب ، وكما يرخص في أشياء ، فبلغه أن ناسا تحرجوا من ذلك ، وفي كل ذلك يقول : " يحل الله لرسوله ما شاء " فتبين بذلك أن هذا ليس مما يتقى ويجتنب ولم أفعله لخصوص في . فلو كان البقاء على الإحرام هو الواجب في الأصل ، وإنما وقعت الرخصة في وقت خاص - لم يتغيظ مثل هذا التغيظ . إني أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي
الوجه الرابع : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الحجة : " " رواه لتأخذوا عني مناسككم مسلم من حديث جابر . ومعلوم أنهم إنما يأخذونها ليقتدوا [ ص: 512 ] به فيها ، ويهتدوا بهديه ، ويستنوا بسنته ، فلو كانت تلك الحجة خارجة عن القياس ، ومختصة بأولئك الركب ، لم يجز أن يقال : " " [ بل خذوا مناسككم ] إلا في التحلل أو نحو ذلك . خذوا عني مناسككم
الوجه الخامس : أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفتوا بالفسخ بعده ، ولو كان مختصا بذلك الركب لم يخف ذلك عليهم ، وقد تقدم ذكر ذلك عن أبي موسى الأشعري . وابن عباس
الوجه السادس : أنه لا موجب لاختصاصهم بها ؛ وذلك لأنه إن كان المقصود بيان جواز ، فقد بين هذا باعتماره في ذي القعدة هو وأصحابه عمرة الاعتمار في أشهر الحج الحديبية ، وعمرة القضية ، وعمرة الجعرانة ، فهو لم يعتمر قط إلا في أشهر الحج . وإن كان المقصود بيان العمرة قبل الحج في أشهره فهذا حصل بقوله عند الميقات ، وبفعل بعض أصحابه وهم الذين أحرموا من الميقات بعمرة مثل ، ونحوها ، فإنه قد قال لهم عند الميقات : " عائشة " . فأي بيان لجواز من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعلأبين من هذا ، وقد أحرم كثير منهم بالعمرة قبل الحج بإذنه ؟ العمرة قبل الحج
وأيضا : فإنه - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون قد عزم على أمرهم بالتمتع قبل الإحرام ، أو في أثناء الطريق ، فإن كان قد عزم عليه أولا فلأي شيء لم يأمرهم أن يحرموا كلهم بالعمرة ، ويترك هو سوق الهدي كما قد أسف عليه ، ويريحهم [ ص: 513 ] من مؤنة الفسخ الذي هو على خلاف ظاهر القرآن على زعم من يقول ذلك ؟ وإن كان عزم عليه في أثناء الطرق فلا بد أن يكون قد بدا له ما لم يكن قد بدا له قبل ذلك ، وهو لم يبد له بيان جواز الاعتمار قبل ذلك ، فإنه قد بين ذلك قبل هذا ، فعلم أن الذي بدا له : جواز الإحلال من هذا الإحرام بعمرة ، وأن يكونوا كلهم متمتعين ، وأن الفضل في ذلك .
قال : " طاوس الصفا والمروة ، فنزل عليه القضاء ، فأمر من لم يكن معه هدي أن يحل ، قال : فدخلت العمرة في الحج " وفي لفظ : " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظر القضاء في حجته ، فلما قدم طاف بالبيت وبين أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظر أمر ربه ، فلما كان بمكة أمر بالأمر " رواه سعيد . ومعناه أنه ينتظر هل يتمون ما أحرموا به أو يغيرونه ؛ لأنه قد صح بالروايات المستفيضة [ ص: 514 ] أنهم أحرموا إما بعمرة ، أو بحج ، أو بعمرة وحج .
وأيضا : فلو كان المقصود بيان جواز العمرة في أشهر الحج لبين ذلك بالكلام ، كما بين لهم كثيرا من الأحكام .
الوجه السابع : لو كان الفسخ خارجا عن مقتضى الكتاب وهو مختص بهم لم يفرق الحال بين من ساق الهدي ، ومن لم يسقه ، حتى ينشأ من ذلك ترددهم وتأسفه على سوق الهدي ، وموافقتهم . وقد بين أن سائق الهدي لا يجوز له الفسخ ؛ امتثالا لقوله : " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله " فهلا أمر الجميع بالإتمام امتثالا لقوله : " وأتموا الحج والعمرة لله " أيضا ، أو جوز تخصيص ذلك الركب من حكم هاتين الآيتين لقصد بيان جواز العمرة قبل الحج في أشهره ، فإن دلالة الآيتين على الحكم عند من يخالف في ذلك سواء . فلما أمر بالفسخ من لم يسق الهدي دون من ساق ، وبين أن السوق يمنع الفسخ - علم قطعا أن الفسخ في نفسه أمر جائز مستحب ، وأن لا مانع منه غير سوق الهدي . وهذا واضح لمن أنصف .
الوجه الثامن : أن الله أمر نبيه بإتمام الحج والعمرة لله قبل حجة الوداع بأربع سنين ، فلا يخلو إما أن يكون الفسخ تركا لإتمام الحج لله ، فلا يكون أولئك الصحابة مخاطبين بهذه الآية ، ولا داخلين في حكمها ، وهم المواجهون بالخطاب ، المقصودون به قبل الناس كلهم ، ثم كيف يجوز لمسلم أن يعتقد أنهم لم يتموا الحج لله ؟ ! وإن لم يكن الفاسخ تاركا لإتمام الحج لله ، بل هو متم له كما أمر الله ، فلا فرق في هذا بين ناس ، وناس .
الوجه التاسع : أن الله قد أرخص لهم في المتعة بقوله : " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " وقد نزل ذلك في سنة ست ، وقد أحرم منهم نفر بالعمرة كما [ ص: 515 ] في حديث جابر ، فكيف يقال : أن المسلمين كانوا لا يرون الاعتمار في أشهر الحج ؟ ! نعم كان المشركون يرون ذلك ، والمسلمون قد بين الله لهم في كتابه ، وعلى لسان نبيه قبل حجة الوداع جواز الاعتمار في أشهر الحج ، سواء حج في ذلك العام ، أو لم يحج ، وقد فعلوا ذلك . فعلم أن توقفهم وترددهم إنما كان في فسخ الحج إلى العمرة والإحلال من الإحرام لفضل التمتع لا لبيان جوازه . وعائشة
العاشر : أن . . .