[ ص: 3 ] ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب )
قوله تعالى : ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ( سل ) كان في الأصل اسأل فتركت الهمزة التي هي عين الفعل لكثرة الدور في الكلام تخفيفا ، ونقلت حركتها إلى الساكن الذي قبلها ، وعند هذا التصريف استغني عن ألف الوصل ، وقال قطرب : يقال : سأل يسأل مثل زأر الأسد يزأر ، وسال يسال ، مثل خاف يخاف ، والأمر فيه : سل مثل خف ، وبهذا التقدير قرأ نافع وابن عامر ( سال سائل ) على وزن قال ، وكال ، وقوله : ( كم ) هو اسم مبني على السكون موضوع للعدد ، يقال : إنه من تأليف كاف التشبيه مع ( ما ) ثم قصرت ( ما ) وسكنت الميم ، وبنيت على السكون ؛ لتضمنها حرف الاستفهام ، وهي تارة تستعمل في الخبر وتارة في الاستفهام ، وأكثر لغة العرب الجر به عند الخبر ، والنصب عند الاستفهام ، ومن العرب من ينصب به في الخبر ، ويجر به في الاستفهام ، وهي ههنا يحتمل أن تكون استفهامية ، وأن تكون خبرية .
المسألة الثانية : اعلم أنه ليس المقصود سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها ; وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عالما بتلك الأحوال بإعلام الله تعالى إياه ، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى ، وبيان هذا الكلام أنه تعالى قال : ( ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) [البقرة : 208] فأمر بالإسلام ونهى عن الكفر ، ثم قال : ( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ) [البقرة : 209] أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد بقوله : ( فاعلموا أن الله عزيز حكيم ) [البقرة : 209] ثم بين ذلك التهديد بقوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ) [البقرة : 210] ثم ثلث ذلك التهديد بقوله : ( سل بني إسرائيل ) يعني سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها ، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون [ ص: 4 ] فيه ، والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم ، كما قال تعالى : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) [الحشر : 2] وقال : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) [يوسف : 111] فهذا بيان وجه النظم .
المسألة الثالثة : فرق أبو عمرو في ( سل ) بين الاتصال بواو وفاء وبين الاستئناف ، فقرأ ( سلهم ) و ( سل بني إسرائيل ) بغير همز ( واسأل القرية ) [يوسف : 82] ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب ) [يونس : 94] ( واسألوا الله من فضله ) [النساء : 32] بالهمز ، وسوى الكسائي بين الكل ، وقرأ الكل بغير همز . وجه الفرق أن التخفيف في الاستئناف وصلة إلى إسقاط الهمزة المبتدأة وهي مستقلة ، وليس كذلك في الاتصال , والكسائي اتبع المصحف ; لأن الألف ساقطة فيها أجمع .
المسألة الرابعة : قوله : ( من آية بينة ) فيه قولان :
أحدها : المراد به موسى عليه السلام ، نحو فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، ونتق الجبل ، وتكليم الله تعالى معجزات لموسى عليه السلام من السحاب ، وإنزال التوراة عليهم ، وتبيين الهدى من الكفر لهم ، فكل ذلك آيات بينات .
والقول الثاني : أن المعنى : كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد عليه الصلاة والسلام ، يعلم بها صدقه وصحة شريعته .