( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون )
قوله عز وجل : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) [ ص: 88 ] ( يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون )
فيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة ، فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء ، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية ، وقال أبو مسلم الأصفهاني هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا البتة ، بل كانت ثابتة في شرع النصارى ، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتا في شرعهم ، وجرى فيه على مذهبه من أنه لم يقع في شرعنا نسخ البتة ، واحتج الجمهور على قولهم بوجوه :
الحجة الأولى : أن قوله تعالى : ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) [ البقرة : 183 ] يقتضي تشبيه صومنا بصومهم ، وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم ، فوجب بحكم هذا التشبيه أن تكون ثابتة أيضا في صومنا ، وإذا ثبت أن الحرمة كانت ثابتة في شرعنا ، وهذه الآية ناسخة لهذه الحرمة لزم أن تكون هذه الآية ناسخة لحكم كان ثابتا في شرعنا .
الحجة الثانية : التمسك بقوله تعالى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) ولو كان هذا الحل ثابتا لهذه الأمة من أول الأمر لم يكن لقوله : ( أحل لكم ) فائدة .
الحجة الثالثة : التمسك بقوله تعالى : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) ، ولو كان ذلك حلالا لهم لما كان بهم حاجة إلى أن يختانون أنفسهم .
الحجة الرابعة : قوله تعالى : ( فتاب عليكم وعفا عنكم ) ، ولولا أن ذلك كان محرما عليهم وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل ، لما صح قوله : ( فتاب عليكم وعفا عنكم ) .
الحجة الخامسة : قوله تعالى : ( فالآن باشروهن ) ، ولو كان الحل ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله : ( فالآن باشروهن ) فائدة .
الحجة السادسة : هي أن الروايات المنقولة في سبب نزول هذه الآية دالة على أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا ، . هذا مجموع دلائل القائلين بالنسخ
أجاب أبو مسلم عن هذه الدلائل فقال :
أما الحجة الأولى : فضعيفة لأنا بينا أن تشبيه الصوم بالصوم يكفي في صدقه مشابهتهما في أصل الوجوب .
وأما الحجة الثانية فضعيفة أيضا لأنا نسلم أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا ، فقوله : ( أحل لكم ) معناه أن الذي كان محرما على غيركم فقد أحل لكم .
وأما الحجة الثالثة : فضعيف أيضا ؛ وذلك لأن تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى عليه السلام ، وأن الله تعالى أوجب علينا الصوم ، ولم يبين في ذلك الإيجاز زوال تلك الحرمة فكان يخطر ببالهم أن تلك الحرمة كانت ثابتة في الشرع المتقدم ، ولم يوجد في شرعنا ما دل على زوالها فوجب القول ببقائها ، ثم تأكد هذا الوهم بقوله تعالى : ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) ، فإن مقتضى التشبيه حصول [ ص: 89 ] المشابهة في كل الأمور ، فلما كانت هذه الحرمة ثابتة في الشرع المتقدم وجب أن تكون ثابتة في هذا الشرع ، وإن لم تكن حجة قوية إلا أنها لا أقل من أن تكون شبهة موهمة ؛ فلأجل هذه الأسباب كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا ، فلا جرم شددوا وأمسكوا عن هذه الأمور ؛ فقال الله تعالى : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) وأراد به تعالى النظر للمؤمنين بالتخفيف لهم بما لو لم تتبين الرخصة فيه لشددوا وأمسكوا عن هذه الأمور ونقصوا أنفسهم من الشهوة ، ومنعوها من المراد ، وأصل الخيانة النقص ، وخان واختان وتخون بمعنى واحد ، كقولهم : كسب واكتسب وتكسب ، فالمراد من الآية : علم الله أنه لو لم يتبين لكم إحلال الأكل والشرب والمباشرة طول الليل أنكم كنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذاتها ومصلحتها بالإمساك عن ذلك بعد النوم كسنة النصارى .
وأما الحجة الرابعة : فضعيفة لأن التوبة من العباد الرجوع إلى الله تعالى بالعبادة ، ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان ، وأما العفو فهو التجاوز فبين الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما جعله ثقيلا على من قبلنا ، كقوله : ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) [ الأعراف : 157 ] .
وأما الحجة الخامسة : فضعيفة لأنهم كانوا بسبب تلك الشبهة ممتنعين عن المباشرة ، فلما بين الله تعالى ذلك وأزال الشبهة فيه لا جرم قال : ( فالآن باشروهن ) .
وأما الحجة السادسة : فضعيفة لأن قولنا : هذه الآية ناسخة لحكم كان مشروعا لا تعلق له بباب العمل ولا يكون خبر الواحد حجة فيه ، وأيضا ففي الآية ما يدل على ضعف هذه الروايات لأن المذكور في تلك الروايات أن القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول ، وذلك على خلاف قول الله تعالى : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) لأن ظاهره هو المباشرة ، لأنه افتعال من الخيانة ، فهذا حاصل الكلام في هذه المسألة .