المسألة الأولى : في أقوال : نصب " الصابرين "
الأول : قال الكسائي : هو معطوف على ( ذوي القربى ) كأنه قال : وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين . قال النحويون : إن تقدير الآية يصير هكذا : ولكن البر من آمن بالله وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين ، فعلى هذا قوله : ( والصابرين ) " من " صلة من . قوله : ( والموفون ) متقدم على قوله : ( والصابرين ) فهو عطف على ( من ) فحينئذ قد عطفت على الموصول قبل صلته شيئا ، وهذا غير جائز ؛ لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد ، ومحال أن يوصف الاسم أو يؤكد أو يعطف عليه إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه ، أما إن جعلت قوله : ( والموفون ) رفعا على المدح ، وقد عرفت أن هذا الفصل غير جائز ، بل هذا أشنع ؛ لأن المدح جملة ، فإذا لم يجز الفصل بالمفرد فلأن لا يجوز بالجملة كان ذلك أولى .
فإن قيل : أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة كقول القائل : إن زيدا فافهم ما أقول رجل عالم ، وكقوله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) [ الكهف : 30 ] ثم قال : ( أولئك ) ففصل بين المبتدأ والخبر بقوله : ( إنا لا نضيع ) .
قلنا : الموصول مع الصلة كالشيء الواحد ، فالتعلق الذي بينهما أشد من التعلق بين المبتدأ والخبر ، فلا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصلة .
القول الثاني : قول الفراء : إنه نصب على المدح ، وإن كان من صفة من ، وإنما رفع " الموفون " ونصب " الصابرين " لطول الكلام بالمدح ، والعرب تنصب على المدح وعلى الذم إذا طال الكلام بالنسق في صفة الشيء الواحد ، وأنشد الفراء :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وقالوا فيمن قرأ : ( حمالة الحطب ) [ المسد : 3 ] وقالوا فيمن قرأ : بنصب ( حمالة ) أنه نصب على الذم ، قال أبو علي الفارسي : وإذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ؛ لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل ؛ لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا وجملة واحدة . ثم اختلف الكوفيون والبصريون في أن المدح والذم لما صارا علتين لاختلاف الحركة ؟ فقال الفراء : أصل المدح والذم من كلام السامع ، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له : قام زيد فربما أثنى السامع على زيد ، وقال : ذكرت والله الظريف ، ذكرت العاقل ، أي هو والله الظريف هو العاقل ، فأراد المتكلم أن يمدح بمثل ما مدحه به السامع ، فجرى الإعراب على ذلك ، وقال الخليل : المدح والذم ينصبان على معنى : أعني الظريف ، وأنكر الفراء ذلك لوجهين :
الأول : أن " أعني " إنما يقع تفسيرا للاسم المجهول ، والمدح يأتي بعد المعروف .
الثاني : أنه لو صح ما قاله الخليل لصح أن يقول : قام زيد أخاك ، على معنى : أعني أخاك ، وهذا مما لم تقله العرب أصلا .
واعلم أن من الناس من قرأ ( والموفين ) ( والصابرين ) ومنهم من قرأ ( والموفون ) و ( الصابرون ) .
[ ص: 40 ] وأما قوله : ( في البأساء ) قال : يريد الفقر ، وهو اسم من البؤس ( ابن عباس والضراء ) قال : يريد به المرض ، وهما اسمان على فعلاء ولا أفعل لهما ؛ لأنهما ليسا بنعتين ( وحين البأس ) قال رضي الله عنهما : يريد القتال في سبيل الله والجهاد ، ومعنى البأس في اللغة الشدة ، يقال : لا بأس عليك في هذا ، أي لا شدة ( ابن عباس بعذاب بئيس ) [ الأعراف : 165 ] شديد ثم تسمى الحرب بأسا لما فيها من الشدة ، والعذاب يسمى بأسا لشدته قال تعالى : ( فلما رأوا بأسنا ) [ غافر : 84 ] ، ( فلما أحسوا بأسنا ) [ الأنبياء : 12 ] ، ( فمن ينصرنا من بأس الله ) [ غافر : 29 ] .
ثم قال تعالى : ( أولئك الذين صدقوا ) أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم ، وذكر الواحدي رحمه الله في آخر هذه الآية مسألة وهي أنه قال : هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع ، فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر ، وكذا بل لا يكون قائما بالبر إلا عند استجماع هذه الخصال ، ولذلك قال بعضهم : هذه الصفة خاصة للأنبياء عليهم السلام ؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها ، وقال آخرون : هذه عامة في جميع المؤمنين . وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت . الصابر في البأساء
( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) .