المسألة الأولى : اعلم أن هذا الكلام يوهم حجاجا وكلاما تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجة تزول الآن باستقبال الكعبة ، وفي كيفية تلك الحجة روايات .
أحدها : أن اليهود قالوا : تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا .
وثانيها : قالوا : ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه .
وثالثها : أن العرب قالوا : إنه كان يقول : أنا على دين إبراهيم والآن ترك التوجه إلى الكعبة ، ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم - عليه السلام - فصارت هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه - عليه الصلاة والسلام - ، إلا أن الله تعالى لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين ؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح ، وقد بينا من قبل تلك المصلحة ، وهي تميز من اتبعه بمكة ممن أقام على تكذيبه ، فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل - عليه الصلاة والسلام - إلى المدينة تغيرت المصلحة فاقتضت الحكمة الكعبة ، فلهذا قال الله تعالى : ( تحويل القبلة إلى لئلا يكون للناس عليكم حجة ) يعني تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أنه يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى ، وهو قول بعض العرب : إن محمدا - عليه الصلاة والسلام - عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية ، وكان التمسك بهذه الشبهة والاستمرار عليها سببا للبقاء على الجهل والكفر ، وذلك ظلم على النفس على ما قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] فلا جرم قال الله تعالى : ( إلا الذين ظلموا منهم ) .
المسألة الثانية : قرأ نافع : ( ليلا ) يترك الهمزة ، وكل همزة مفتوحة قبلها كسرة فإنه يقلبها ياء ، والباقون بالهمزة وهو الأصل .
المسألة الثالثة : ( لئلا ) موضعه نصب ، والعامل فيه ( ولوا ) أي ولوا لئلا ، وقال الزجاج التقدير : عرفتكم ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة .
المسألة الرابعة : قيل : الناس هم أهل الكتاب عن قتادة ، والربيع وقيل : هو على العموم .
المسألة الخامسة : هاهنا سؤال ، وهو أن شبهة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ليست بحجة ، فكيف يجوز استثناؤها عن الحجة ، وقد اختلف الناس فيه على أقوال . الأول : أنه استثناء متصل ثم على هذا القول يمكن دفع السؤال من وجوه :
[ ص: 127 ] الوجه الأول : أن الحجة كما أنها قد تكون صحيحة ، قد تكون أيضا باطلة ، قال الله تعالى ( حجتهم داحضة عند ربهم ) [ الشورى : 16 ] وقال تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ) [ آل عمران : 61 ] والمحاجة هي أن يورد كل واحد منهم على صاحبه حجة ، وهذا يقتضي أن يكون الذي يورد المبطل يسمى بالحجة ؛ ولأن الحجة اشتقاقها من حجه إذا علا عليه ، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجة ، وقال بعضهم : إنها مأخوذة من محجة الطريق ، فكل كلام يتخذه الإنسان مسلكا لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجة ، وإذا ثبت أن الشبهة قد تسمى حجة كان الاستثناء متصلا .
الوجه الثاني : في تقرير أنه استثناء متصل : أن المراد بالناس أهل الكتاب فإنهم وجدوه في كتابهم أنه - عليه الصلاة والسلام - يحول القبلة فلما حولت ، بطلت حجتهم إلا الذين ظلموا بسبب أنهم كتموا ما عرفوا ؛ عن أبي روق .
الوجه الثالث : أنهم لما أوردوا تلك الشبهة على اعتقاد أنها حجة سماها الله ( حجة ) بناء على معتقدهم ، أو لعله تعالى سماها ( حجة ) تهكما بهم .
الوجه الرابع : أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم ) فإنهم يحاجونكم بالباطل .
القول الثاني : أنه استثناء منقطع ، ومعناه : لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة ، وهو كقوله تعالى : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) [ النساء : 157 ] وقال النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ومعناه : لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب ، ويقال ما له علي حق إلا التعدي ، يعني : لكنه يتعدى ويظلم ، ونظيره أيضا قوله تعالى : ( إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) [ النمل : 10 - 11 ] وقال : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) [ هود : 43 ] وهذا النوع من الكلام عادة مشهورة للعرب .
القول الثالث : زعم أبو عبيدة أن ( إلا ) بمعنى الواو ، كأنه تعالى قال : لئلا يكون للناس عليكم حجة وللذين ظلموا ، وأنشد :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني : والفرقدان .
القول الرابع : قال قطرب : موضع ( الذين ) خفض ؛ لأنه بدل من الكاف والميم في عليكم كأنه قيل : لئلا يكون عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنه يكون حجة عليهم وهم الكفار ، قال علي بن عيسى : هذان الوجهان بعيدان .
أما قوله تعالى : ( فلا تخشوهم واخشوني ) فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج ، ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم واخشوني ، يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم ، وهذه الآية تدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه خشية عقاب الله ، وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء البتة ، وأن لا يكون مشتغل القلب بهم ، [ ص: 128 ] ولا ملتفت الخاطر إليهم .
أما قوله تعالى : ( ولأتم نعمتي عليكم ) فقد اختلفوا في متعلق اللام على وجوه :
أحدها : أنه راجع إلى قوله تعالى : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) ( ولأتم نعمتي عليكم ) فبين الله تعالى أنه حولهم إلى هذه الكعبة لهاتين الحكمتين . إحداهما : لانقطاع حجتهم عنه . والثانية : لتمام النعمة ، وقد بين أبو مسلم بن بحر الأصفهاني ما في ذلك من النعمة ، وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلون ، فلما حول - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب ، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب التحول إلى الكعبة لما فيه من شرف البقعة ، فهذا موضع النعمة .
وثانيها : أن متعلق اللام محذوف ، معناه : ولإتمام النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك .
وثالثها : أن يعطف على علة مقدرة ، كأنه قيل : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم ، والقول الأول أقرب إلى الصواب ، فإن قيل : إنه تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) [ المائدة : 3 ] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم ، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية : ( ولأتم نعمتي عليكم ) قلنا : تمام النعمة اللائقة في كل وقت هو الذي خصه به ، وفي الحديث : وعن " تمام النعمة دخول الجنة " علي - رضي الله عنه -: تمام النعمة الموت على الإسلام .
واعلم أن الذي حكيناه عن أبي مسلم - رحمه الله - من التشكك في صلاة الرسول وصلاة أمته إلى بيت المقدس ، فإن كان مراده أن ألفاظ القرآن لا تدل على ذلك فقد أصاب ؛ لأن شيئا من ألفاظ القرآن لا دلالة فيه على ذلك البتة على ما بيناه ، وإن أراد به إنكاره أصلا ، فبعيد ؛ لأن الأخبار في ذلك قريبة من المتواتر ، ولأبي مسلم - رحمه الله - أن يمنع التواتر ، وعند ذلك يقول : لا يصح التعويل في القطع بوقوع النسخ في شرعنا على خبر الواحد والله أعلم .