أما وما كان الله ليضيع إيمانكم ) ففيه مسائل : قوله تعالى : (
المسألة الأولى : كأبي أمامة ، وسعد بن زرارة ، ، والبراء بن عازب ، وغيرهم ماتوا على القبلة الأولى ، فقال عشائرهم : يا رسول الله ، توفي إخواننا على القبلة الأولى ، فكيف حالهم ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية والبراء بن معرور . أن رجالا من المسلمين
واعلم أنه لا بد من هذا السبب ، وإلا لم يتصل بعض الكلام ببعض ، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوزوا النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لما تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة وباطلا ، فوقع في قلبهم بناء على هذا السؤال أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة ، ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الإشكال وبين أن ، والأول كالثاني في أن القائم به متمسك بالدين ، وأن من هذا حاله فإنه لا يضيع أجره ، ونظيره : ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات وكان يشربها ، فأنزل الله تعالى : ( النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ) [ المائدة : 93 ] فعرفهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى ، فإن قيل : إذا كان الشك إنما تولد من تجويز البداء على الله تعالى ، فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟ قلنا : الجواب من وجوه :
أحدها : أن ذلك الشك وقع لمنافق ، فذكر الله تعالى ذلك ليذكره المسلمون جوابا لسؤال ذلك المنافق .
وثانيها : لعلهم اعتقدوا أن الصلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا : ليت إخواننا ممن مات أدرك ذلك ، فذكر الله [ ص: 98 ] تعالى هذا الكلام جوابا عن ذلك .
وثالثها : لعله تعالى ذكر هذا الكلام ليكون دفعا لذلك السؤال لو خطر ببالهم .
القول الثاني : وهو قول ابن زيد أن الله تعالى إذا علم أن الصلاح في نقلكم من بيت المقدس إلى الكعبة فلو أقركم على الصلاة إلى بيت المقدس كان ذلك إضاعة عنه لصلاتكم لأنها تكون على هذا التقدير خالية عن المصالح ، فتكون ضائعة ، والله تعالى لا يفعل ذلك .
القول الثالث : أنه تعالى لما ذكر ما عليهم من المشقة في هذا التحويل عقبه بذكر ما لهم عنده من الثواب ، وأنه لا يضيع ما عملوه ، وهذا قول الحسن .
القول الرابع : كأنه تعالى قال : وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم ، فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا ، ولو كفروا لضاع إيمانهم فقال : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) فلا جرم وفقكم لقبول هذا التكليف وأعانكم عليه .
المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) خطاب مع من ؟ على قولين :
القول الأول : أنه مع المؤمنين ، وذكر القفال على هذا القول وجوها أربعة :
الأول : أن الله خاطب به المؤمنين الذين كانوا موجودين حينئذ ، وذلك جواب عما سألوه من قبل .
الثاني : أنهم سألوا عمن فأجابهم الله تعالى بقوله : ( مات قبل نسخ القبلة وما كان الله ليضيع إيمانكم ) أي : وإذا كان إيمانكم الماضي قبل النسخ لا يضيعه الله ، فكذلك إيمان من مات قبل النسخ .
الثالث : يجوز أن يكون الأحياء قد توهموا أن ذلك لما نسخ بطل ، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفارة لما سلف ، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ولم يأتوا بما يكفر ما سلف ، فقيل : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) والمراد أهل ملتكم ، كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد - صلى الله عليه وسلم - : ( وإذ قتلتم نفسا ) [ البقرة : 72 ] ، ( وإذ فرقنا بكم البحر ) [ البقرة : 50 ] .
الرابع : يجوز أن يكون السؤال واقعا عن الأحياء والأموات معا ، فإنهم أشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم ، وكان الإشفاق واقعا في الفريقين ، فقيل : إيمانكم للأحياء والأموات ، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب فيقولوا : كنت أنت وفلان الغائب فعلتما ، والله أعلم .
القول الثاني : قول أبي مسلم ، وهو أنه يحتمل أن يكون ذلك خطابا لأهل الكتاب ، والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ ، وإنما اختار أبو مسلم هذا القول لئلا يلزمه . وقوع النسخ في شرعنا