( تبت يدا أبي لهب وتب ) .
قوله تعالى : ( تبت يدا أبي لهب ) اعلم أن قوله : ( تبت ) فيه أقاويل :
أحدها : التباب الهلاك ، ومنه قولهم شابة أم تابة أي هالكة من الهرم ، ونظيره قوله تعالى : ( وما كيد فرعون إلا في تباب ) [ غافر : 37 ] أي في هلاك ، والذي يقرر ذلك أن الأعرابي لما واقع أهله في نهار رمضان قال : هلكت وأهلكت ، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر ذلك ، فدل على أنه كان صادقا في ذلك ، ولا شك أن العمل إما أن يكون داخلا في الإيمان ، أو إن كان داخلا لكنه أضعف أجزائه ، فإذا كان بترك العمل حصل الهلاك ، ففي حق أبي لهب حصل ترك الاعتقاد والقول والعمل ، وحصل وجود الاعتقاد الباطل ، والقول الباطل ، والعمل الباطل ، فكيف يعقل أن لا يحصل معنى الهلاك ، فلهذا قال : ( تبت ) .
وثانيها : تبت خسرت ، والتباب هو الخسران المفضي إلى الهلاك ، ومنه قوله تعالى : ( وما زادوهم غير تتبيب ) أي : تخسير ، بدليل أنه قال في موضع آخر : غير تخسير .
وثالثها : تبت خابت ، قال : لأنه كان يدفع القوم عنه بقوله : إنه ساحر ، فينصرفون عنه قبل لقائه ؛ لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم ، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهما فلم يقبل قوله في الرسول بعد ذلك ، فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه ، ولعله إنما ذكر اليد ؛ لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه ، فيقول : انصرف راشدا فإنه مجنون ، فإن المعتاد أن من يصرف إنسانا عن موضع وضع يده على كتفه ودفعه عن ذلك الموضع . ابن عباس
ورابعها : عن عطاء : تبت أي : غلبت لأنه كان يعتقد أن يده هي العليا وأنه يخرجه من مكة ويذله ويغلب عليه .
وخامسها : عن ابن وثاب ; صفرت يداه على كل خير ، وإن قيل : ما فائدة ذكر اليد ؟
قلنا : فيه وجوه :
أحدها : ما يروى أنه أخذ حجرا ليرمي به رسول الله ، روي عن طارق المحاربي أنه قال : محمد وعمه أبو لهب . رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يقول : يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه ، [ وهو يقول ] لا تطيعوه فإنه كذاب ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا :
وثانيها : المراد من اليدين الجملة كقوله تعالى : ( ذلك بما قدمت يداك ) [ الحج : 10 ] ومنه قولهم : يداك أوكتا ، وقوله تعالى : ( مما عملت أيدينا ) [ يس : 71 ] وهذا التأويل متأكد بقوله : ( وتب ) .
وثالثها : تبت يداه أي دينه ودنياه أولاه وعقباه ، أو لأن بإحدى اليدين تجر المنفعة ، وبالأخرى تدفع المضرة ، أو لأن اليمنى سلاح والأخرى جنة .
ورابعها : روي أنه عليه السلام لما دعاه نهارا فأتى ، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا ، فلما دخل عليه قال له : جئتني معتذرا فجلس النبي عليه [ ص: 154 ] السلام أمامه كالمحتاج ، وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال : إن كان يمنعك العار ، فأجبني في هذا الوقت واسكت ، فقال : لا أومن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي ، فقال عليه الصلاة والسلام للجدي : من أنا ؟ فقال : رسول الله وأطلق لسانه يثني عليه ، فاستولى الحسد على أبي لهب ، فأخذ يدي الجدي ومزقه وقال : تبا لك أثر فيك السحر ، فقال الجدي : بل تبا لك ، فنزلت السورة على وفق ذلك : ( تبت يدا أبي لهب ) لتمزيقه يدي الجدي .
وخامسها : قال : يروى أن محمد بن إسحاق أبا لهب كان يقول : يعدني محمد أشياء لا أرى أنها كائنة يزعم أنها بعد الموت ، فلم يضع في يدي من ذلك شيئا ، ثم ينفخ في يديه ويقول : تبا لكما ما أرى فيكما شيئا ، فنزلت السورة .
( وتب )
أما قوله تعالى : ( وتب ) ففيه وجوه :
أحدها : أنه أخرج الأول مخرج الدعاء عليه كقوله : ( قتل الإنسان ما أكفره ) [ عبس : 17 ] والثاني مخرج الخبر أي كان ذلك وحصل ، ويؤيده قراءة ابن مسعود ( وقد تب ) .
وثانيها : كل واحد منهما إخبار ولكن أراد بالأول هلاك عمله ، وبالثاني هلاك نفسه ، ووجهه أن ، فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين . المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله
وثالثها : ( تبت يدا أبي لهب ) يعني ماله ومنه يقال : ذات اليد ( وتب ) هو بنفسه كما يقال : ( خسروا أنفسهم وأهليهم ) [ الشورى : 45 ] وهو قول أبي مسلم .
ورابعها : ( تبت يدا أبي لهب ) يعني نفسه : ( وتب ) يعني ولده عتبة على ما روي أن عتبة بن أبي لهب خرج إلى الشأم مع أناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم عتبة : بلغوا محمدا عني أني قد كفرت بالنجم إذا هوى ، وروي عتبة وكان يحترز فسار ليلة من الليالي فلما كان قريبا من الصبح ، فقال له أصحابه : هلكت الركاب فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب وأناخ الإبل حوله كالسرادق فسلط الله عليه الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه ومزقه ، فإن قيل : نزول هذه السورة كان قبل هذه الوقعة ، وقوله : ( وتب ) إخبار عن الماضي ، فكيف يحمل عليه ؟ قلنا : لأنه كان في معلومه تعالى أنه يحصل ذلك . أنه قال ذلك في وجه رسول الله وتفل في وجهه ، وكان مبالغا في عداوته ، فقال : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فوقع الرعب في قلب
وخامسها : ( تبت يدا أبي لهب ) حيث لم يعرف حق ربه ( وتب ) حيث لم يعرف حق رسوله .
وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : لماذا كناه مع أنه كالكذب إذا لم يكن له ولد اسمه لهب ، وأيضا فالتكنية من باب التعظيم ؟
والجواب عن الأول : أن ، ويؤيده قراءة من قرأ : ( تبت يدا أبو لهب ) كما يقال : التكنية قد تكون اسما علي بن أبو طالب ، ، فإن هؤلاء أسماؤهم كناهم . ومعاوية بن أبو سفيان
وأما معنى التعظيم فأجيب عنه من وجوه :
أحدها : أنه لما كان اسما خرج عن إفادة التعظيم .
والثاني : أنه كان اسمه عبد العزى فعدل عنه إلى كنيته .
والثالث : أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حاله كنيته ، فكان جديرا بأن يذكر بها ، ويقال أبو لهب : كما يقال : أبو الشر للشرير ، وأبو الخير للخير .
الرابع : كني بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما ، فيجوز أن يذكر بذلك تهكما به واحتقارا له .
السؤال الثاني : أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان نبي الرحمة والخلق العظيم ، فكيف يليق به أن [ ص: 155 ] يشافه عمه بهذا التغليظ الشديد ، وكان نوح مع أنه في نهاية التغليظ على الكفار قال في ابنه الكافر : ( إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق ) إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه بالشفقة في قوله : يا أبت ، يا أبت ، وأبوه كان يخاطبه بالتغليظ الشديد ، ولما قال له : ( وكان لأرجمنك واهجرني مليا ) [ مريم : 46 ] قال : ( سلام عليك سأستغفر لك ربي ) [ مريم : 47 ] وأما موسى عليه السلام فلما بعثه إلى فرعون قال له ولهارون : ( فقولا له قولا لينا ) [ طه : 44 ] مع أن جرم فرعون كان أغلظ من جرم أبي لهب ، كيف ومن شرع محمد عليه الصلاة والسلام أن بل يدفعه عن نفسه حتى يقتله غيره ؟ الأب لا يقتل بابنه قصاصا ولا يقيم الرجم عليه ، وإن خاصمه أبوه وهو كافر في الحرب فلا يقتله
والجواب من وجوه :
أحدها : أنه كان يصرف الناس عن محمد عليه الصلاة والسلام بقوله : إنه مجنون والناس ما كانوا يتهمونه ؛ لأنه كان كالأب له ، فصار ذلك كالمانع من أداء الرسالة إلى الخلق فشافهه الرسول بذلك حتى عظم غضبه وأظهر العداوة الشديدة ، فصار بسبب تلك العداوة متهما في القدح في محمد عليه الصلاة والسلام ، فلم يقبل قوله فيه بعد ذلك .
وثانيها : أن الحكمة في ذلك ، أن محمدا لو كان يداهن أحدا في الدين ويسامحه فيه ، لكانت تلك المداهنة والمسامحة مع عمه الذي هو قائم مقام أبيه ، فلما لم تحصل هذه المداهنة معه انقطعت الأطماع وعلم كل أحد أنه لا يسامح أحدا في شيء يتعلق بالدين أصلا .
وثالثها : أن الوجه الذي ذكرتم كالمتعارض ، فإن كونه عما يوجب أن يكون له الشفقة العظيمة عليه ، فلما انقلب الأمر وحصلت العداوة العظيمة ، لا جرم استحق التغليظ العظيم .
السؤال الثالث : ما السبب في أنه لم يقل : ( قل تبت يدا أبي لهب وتب ) وقال في سورة الكافرون : ( قل ياأيها الكافرون ) [ الكافرون : 1 ] ؟
الجواب من وجوه :
الأول : لأن قرابة العمومة تقتضي رعاية الحرمة فلهذا السبب لم يقل له : قل ذلك لئلا يكون مشافها لعمه بالشتم بخلاف السورة الأخرى فإن أولئك الكفار ما كانوا أعماما له .
الثاني : أن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله فقال الله تعالى : يا محمد أجب عنهم : ( قل ياأيها الكافرون ) وفي هذه السورة طعنوا في محمد ، فقال الله تعالى اسكت أنت فإني أشتمهم : ( تبت يدا أبي لهب )
الثالث : لما شتموك ، فاسكت حتى تندرج تحت هذه الآية : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [ الفرقان : 63 ] وإذا سكت أنت أكون أنا المجيب عنك ، يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتا ، فجعل الرسول يدفع ذلك الشاتم ويزجره ، فلما شرع أبو بكر في الجواب سكت الرسول ، فقال أبو بكر : ما السبب في ذلك ؟ قال : لأنك حين كنت ساكتا كان الملك يجيب عنك ، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان .
واعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى على أن . من لا يشافه السفيه كان الله ذابا عنه وناصرا له ومعينا
السؤال الرابع : ما الوجه في قراءة حيث كان يقرأ : ( أبي لهب ) ساكنة الهاء ؟ عبد الله بن كثير المكي
الجواب : قال أبو علي : يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين كالشمع والشمع والنهر والنهر ، وأجمعوا في قوله : ( سيصلى نارا ذات لهب ) على فتح الهاء ، وكذا قوله : ( ولا يغني من اللهب ) وذلك يدل على أن الفتح أوجه من الإسكان ، وقال غيره : إنما اتفقوا على الفتح في الثانية مراعاة لوفاق الفواصل .