روي أن عمر كان يعظم ويقربه ويأذن له مع أهل ابن عباس بدر ، فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا ، وفي أبنائنا من هو مثله ؟ فقال : لأنه ممن قد علمتم ، قال : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله : ( ابن عباس إذا جاء نصر الله ) وكأنه ما سألهم إلا من أجلي فقال بعضهم : أمر الله نبيه إذا فتح أن يستغفره ويتوب إليه ، فقلت : ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف تلومونني عليه بعد ما ترون ؟
وروي أنه لما نزلت هذه السورة خطب وقال : " إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه والآخرة فاختار لقاء الله " فقال السائل : وكيف دلت هذه السورة على هذا المعنى ؟
الجواب : من وجوه :
أحدها : قال بعضهم : إنما عرفوا ذلك لما روينا أن الرسول خطب عقيب السورة وذكر التخيير .
وثانيها : أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا دل ذلك على حصول الكمال والتمام ، وذلك يعقبه الزوال كما قيل :
إذا تم شيء دنا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم
وثالثها : أنه أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا واشتغاله به يمنعه عن الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تم وكمل ، وذلك يوجب الموت ؛ لأنه لو بقي بعد ذلك لكان كالمعزول عن الرسالة وإنه غير جائز .
ورابعها : قوله : ( واستغفره ) تنبيه على قرب الأجل كأنه يقول قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر ، ونبهه به على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله أن يستكثر من التوبة .
وخامسها : كأنه قيل له : كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته ، وهو النصر والفتح والاستيلاء ، والله تعالى وعدك بقوله : ( وللآخرة خير لك من الأولى ) فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادات العالية .
المسألة العاشرة : ذكرنا أن الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة ، وأما الذين قالوا : إنها نزلت بعد فتح مكة ، فذكر الماوردي أنه عليه السلام لم يلبث بعد نزول هذه السورة إلا ستين يوما مستديما للتسبيح والاستغفار ، وقال مقاتل : عاش بعدها حولا ونزل : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) [ المائدة : 3 ] فعاش بعدها ثمانين يوما ثم نزل آية الكلالة ، فعاش بعدها خمسين يوما ، ثم نزل : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) [ التوبة : 128 ] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما ثم نزل : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) [ البقرة : 281 ] فعاش بعدها أحد عشر يوما وفي رواية أخرى عاش بعدها سبعة أيام ، والله أعلم كيف كان ذلك .