( ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل )
واعلم أنه تعالى ذكر ما فعل بهم . فقال : ( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن ، إن قيل : فلم سماه كيدا وأمره كان ظاهرا ، فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت ؟ قلنا : نعم ، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر ، لأنه كان يضمر الحسد للعرب ، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية الكعبة منهم ومن بلدهم إلى نفسه وإلى بلدته .
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : إضافة الكيد إليهم دليل على ، كقوله : " الصوم لي " والجواب : أنه ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، فلم لا يكفي في حسن هذه الإضافة وقوعه مطابقا لإرادتهم واختيارهم ؟ أنه تعالى لا يرضى بالقبيح ، إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته
المسألة الثالثة : ( في تضليل ) أي في تضييع وإبطال يقال : ضلل كيده إذا جعله ضالا ضائعا ونظيره قوله تعالى : ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) [ غافر : 50] وقيل لامرئ القيس : الملك الضليل : لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه . بمعنى أنهم كادوا البيت أولا ببناء القليس وأرادوا أن يفتتحوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه ، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه ، ثم كادوه ثانيا بإرادة هدمه فضلل بإرسال الطير عليهم ، ومعنى حرف الظرف كما يقال : سعي فلان في ضلال ، أي سعيهم كان قد ظهر لكل عاقل أنه كان ضلال وخطأ .
ثم قال تعالى : ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ) وفيه سؤالات :
السؤال الأول : لم قال : ( طيرا ) على التنكير ؟ والجواب : إما للتحقير فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر ، أو للتفخيم كأنه يقول : طيرا وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل .
السؤال الثاني : ما الأبابيل ؟ الجواب : أما أهل اللغة قال أبو عبيدة : أبابيل جماعة في تفرقة ، يقال : جاءت [ ص: 95 ] الخيل أبابيل أبابيل من ههنا وههنا ، وهل لهذه اللفظة واحد أم لا ؟ فيه قولان :
الأول : وهو قول الأخفش والفراء : أنه لا واحد لها وهو مثل الشماطيط والعباديد ، لا واحد لها .
والثاني : أنه له واحد ، ثم على هذا القول ذكروا ثلاثة أوجه :
أحدها : زعم أبو جعفر الرؤاسي وكان ثقة مأمونا أنه سمع واحدها إبالة ، وفي أمثالهم : ضغث على إبالة ، وهي الحزمة الكبيرة سميت الجماعة من الطير في نظامها بالإبالة .
وثانيها : قال الكسائي : كنت أسمع النحويين يقولون : إبول وأبابيل كعجول وعجاجيل .
وثالثها : قال الفراء : ولو قال قائل : واحد الأبابيل إيبالة كان صوابا كما قال : دينار ودنانير .
السؤال الثالث : ما صفة تلك الطير ؟ الجواب : روى ابن سيرين عن قال : كانت طيرا لها خراطيم كخراطيم الفيل وأكف كأكف الكلاب ، وروى ابن عباس عطاء عنه قال : طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا ، ولعل السبب أنها أرسلت إلى قوم كان في صورتهم سواد اللون وفي سرهم سواد الكفر والمعصية ، وعن أنها بيض صغار ولعل السبب أن ظلمة الكفر انهزمت بها ، والبياض ضد السواد ، وقيل : كانت خضرا ولها رؤوس مثل رؤوس السباع ، وأقول : إنها لما كانت أفواجا ، فلعل كل فوج منها كان على شكل آخر فكل أحد وصف ما رأى ، وقيل : كانت بلقاء كالخطاطيف . سعيد بن جبير