( كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة )
ثم قال تعالى : ( كلا ) وفيه وجوه :
أحدها : أنه ردع لأبي جهل ومنع له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات .
وثانيها : كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه ، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره .
وثالثها : قال مقاتل : كلا لا يعلم أن الله يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بما يعلم فكأنه لا يعلم .
ثم قال تعالى : ( لئن لم ينته ) أي عما هو فيه : ( لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : ( لنسفعن ) وجوه :
أحدها : لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ، والسفع القبض على الشيء ، وجذبه بشدة ، وهو كقوله : ( فيؤخذ بالنواصي والأقدام ) [الرحمن : 41] .
وثانيها : السفع الضرب ، أي لنلطمن وجهه .
وثالثها : لنسودن وجهه ، قال الخليل : تقول للشيء إذا لفحته النار لفحا يسيرا يغير لون البشرة قد سفعته النار ، قال : والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها ، قال : والسفعة سواد في الخدين . وبالجملة فتسويد الوجه علامة الإذلال والإهانة .
ورابعها : لنسمنه قال في قوله : ( ابن عباس سنسمه على الخرطوم ) [القلم : 16] إنه أبو جهل .
خامسها : لنذلنه .
المسألة الثانية : قرئ "لنسفعن" بالنون المشددة ، أي الفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة ، كما قال : ( فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) [التحريم : 4] وقرأ ابن مسعود "لأسعفن" ، أي يقول الله تعالى يا محمد . أنا الذي أتولى إهانته ، نظيره : ( هو الذي أيدك ) [الأنفال : 62] ، ( هو الذي أنزل السكينة ) [الفتح : 4] .
المسألة الثالثة : هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا ، وهذا أيضا على وجوه :
أحدها : ما أبا جهل لما قال : إن رأيته يصلي لأطأن عنقه ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجدا في آخرها ففعل ، فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه ، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا ، فقيل له ما لك ؟ قال : إن بيني وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لالتقمني ، وقيل : كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد . روي أن
والثاني : أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي ، فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر ، روي أنه لما نزلت سورة الرحمن : [ ص: 24 ] ( علم القرآن ) [الرحمن : 2] قال عليه السلام لأصحابه : "من يقرؤها منكم على رؤساء قريش " ، فتثاقلوا مخافة أذيتهم ، فقام ابن مسعود وقال : أنا يا رسول الله ، فأجلسه عليه السلام ، ثم قال : "من يقرؤها عليهم" فلم يقم إلا ابن مسعود ، ثم ثالثا كذلك إلى أن أذن له ، وكان عليه السلام يبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته ، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة ، فافتتح قراءة السورة ، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه ، فانصرف وعيناه تدمع ، فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموما ، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا ، فقال : "يا جبريل تضحك يبكي" فقال : ستعلم ، فلما ظهر المسلمون يوم وابن مسعود بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين ، فأخذ يطالع القتلى . فإذا أبو جهل ، مصروع يخور ، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه ، ولعل هذا معنى قوله : ( سنسمه على الخرطوم ) ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة ، فلما رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا ، فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، فقال أبو جهل : بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أبغض إلي منه في حال مماتي ، فروي أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال : " فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال ( آمنت ) وهو قد زاد عتوا" ثم قال : اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع ، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله لابن مسعود ، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفا لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه :
أحدها : أنه كلب والكلب يجر .
والثاني : لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن .
والثالث : لتحقيق الوعيد المذكور بقوله : ( لنسفعن بالناصية ) فتجر تلك الرأس على مقدمها ، ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل بين يديه يضحك ، ويقول : يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن ، فهذا ما روي في أبي جهل نقلته معنى لا لفظا ، الخاطئ معنى قوله : ( مقتل لنسفعن بالناصية ) .
المسألة الرابعة : الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية ، ثم إنه تعالى كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية ، ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها ، وربما كان يهتم أيضا بتسويدها فأخبره الله تعالى أنه يسودها مع الوجه .
المسألة الخامسة : أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول : الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية ، كاذبة قولا خاطئة فعلا ، وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذبا على الله تعالى في أنه لم يرسل محمدا وكاذبا على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي ، وقيل : كذبه أنه قال : أنا أكثر أهل هذا الوادي ناديا ، ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على الله تعالى قال الله تعالى : ( لا يأكله إلا الخاطئون ) [الحاقة : 37] أن الخاطئ معاقب مؤاخذ والمخطئ غير مؤاخذ ، ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى : ( والفرق بين الخاطئ والمخطئ إلى ربها ناظرة ) [القيامة : 23] .
المسألة السادسة : ( ناصية ) بدل من الناصية ، وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة ، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة .