( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى )
قوله تعالى : ( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) قال مقاتل : سلطها عليهم . وقال الزجاج : أقلعها عليهم ، وقال آخرون : أرسلها عليهم ، هذه هي الألفاظ المنقولة عن المفسرين ، وعندي أن فيه لطيفة ؛ وذلك لأن من الناس من قال : إن تلك الرياح إنما اشتدت ؛ لأن اتصالا فلكيا نجوميا اقتضى ذلك ، فقوله : ( سخرها ) فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب ، وبيان أن ذلك إنما حصل بتقدير الله وقدرته ، فإنه لولا هذه الدقيقة لما حصل منه التخويف والتحذير عن العقاب . وقوله : ( سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) الفائدة فيه أنه تعالى لو لم يذكر ذلك لما كان هذا العذاب معلوما ، فلما قال : ( مقدار زمان سبع ليال وثمانية أيام ) صار مقدار هذا الزمان معلوما ، ثم لما كان يمكن أن يظن ظان أن ذلك العذاب كان متفرقا في هذه المدة أزال هذا الظن ، بقوله : ( حسوما ) أي متتابعة متوالية ، واختلفوا في الحسوم على وجوه :
أحدها : وهو قول الأكثرين ( حسوما ) ، أي متتابعة ، أي هذه الأيام تتابعت عليهم بالريح المهلكة ، فلم يكن فيها فتور ولا انقطاع ، وعلى هذا القول : حسوم جمع حاسم . كشهود وقعود ، ومعنى هذا الحسم في اللغة القطع بالاستئصال ، وسمي السيف حساما ؛ لأنه يحسم العدو عما يريد ، من بلوغ عداوته فلما كانت تلك الرياح متتابعة ما سكنت ساعة حتى أتت عليهم أشبه تتابعها عليهم تتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء كرة بعد أخرى ، حتى ينحسم .
وثانيها : أن الرياح حسمت كل خير ، واستأصلت كل بركة ، فكانت حسوما ، أو حسمتهم ، فلم يبق منهم أحد ، فالحسوم على هذين القولين جمع حاسم .
وثالثها : أن يكون الحسوم مصدرا كالشكور والكفور ، وعلى هذا التقدير فإما أن ينتصب بفعله مضمرا ، والتقدير : يحسم حسوما ، يعني استأصل استئصالا ، أو يكون صفة ، كقولك : ذات حسوم ، أو يكون مفعولا له ، أي سخرها عليهم للاستئصال ، وقرأ السدي : ( حسوما ) بالفتح حالا من الريح ، أي سخرها عليهم مستأصلة ، وقيل : هي أيام العجوز ، وإنما سميت بأيام العجوز ؛ لأن عجوزا من عاد توارت في سرب ، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها ، وقيل : هي أيام العجز وهي آخر الشتاء .
قوله تعالى : ( فترى القوم فيها صرعى ) أي في مهابها ، وقال آخرون : أي في تلك الليالي والأيام : ( صرعى ) جمع صريع . قال مقاتل : يعني موتى يريد أنهم صرعوا بموتهم ، فهم مصرعون صرع الموت .
( كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ) [ ص: 93 ]
ثم قال : ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ) أي كأنهم أصول نخل خالية الأجواف لا شيء فيها ، والنخل يؤنث ويذكر ، قال الله تعالى في موضع آخر : ( كأنهم أعجاز نخل منقعر ) ( القمر : 20 ) وقرئ : ( أعجاز نخيل ) ، ثم يحتمل أنهم شبهوا بالنخيل التي قلعت من أصلها ، وهو إخبار عن عظيم خلقهم وأجسامهم ، ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع ، أي أن الريح قد قطعتهم حتى صاروا قطعا ضخاما كأصول النخل . وأما وصف النخل بالخواء ، فيحتمل أن يكون وصفا للقوم ، فإن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف ، ويحتمل أن تكون الخالية بمعنى البالية ؛ لأنها إذا بليت خلت أجوافها ، فشبهوا بعد أن أهلكوا بالنخيل البالية .
ثم قال : ( فهل ترى لهم من باقية ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الباقية ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها البقية .
وثانيها : المراد من نفس باقية .
وثالثها : المراد بالباقية البقاء ، كالطاغية بمعنى الطغيان .
المسألة الثانية : ذهب قوم إلى أن المراد أنه لم يبق من نسل أولئك القوم أحد ، واستدل بهذه الآية على قوله ، قال : كانوا ابن جريج أحياء في عقاب الله من الريح ، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا ، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر ، فذاك هو قوله : ( سبع ليال وثمانية أيام فهل ترى لهم من باقية ) وقوله : ( فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) ( الأحقاف : 25 ) .
القصة الثانية قصة فرعون
قوله تعالى : ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ) أي ومن كان قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو ، و ( من ) لفظ عام ومعناه خاص في الكفار دون المؤمنين ، قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي ، ( ومن قبله ) بكسر القاف وفتح الباء ، قال : قبل لما ولي الشيء تقول : ذهب قبل السوق ، ولي قبلك حق ، أي فيما يليك ، واتسع فيه حتى صار بمنزلة لي عليك ، فمعنى ( من قبله ) أي من عنده من أتباعه وجنوده ، والذي يؤكد هذه القراءة ما روي أن سيبويه ابن مسعود وأبيا وأبا موسى قرءوا : ( ومن تلقاءه ) روي عن أبي وحده أنه قرأ : ( ومن معه ) أما قوله : ( والمؤتفكات ) فقد تقدم تفسيرها ، وهم الذين أهلكوا من قوم لوط ، على معنى : والجماعات المؤتفكات ، وقوله : ( بالخاطئة ) فيه وجهان :
الأول : أن الخاطئة مصدر كالخطأ .
والثاني : أن يكون المراد بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم .