( أم عندهم الغيب فهم يكتبون فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ) ثم قال تعالى : ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون ) وفيه وجهان :
الأول : أن عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ثواب ما هم عليه من الكفر والشرك ، فلذلك أصروا عليه ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار .
الثاني : أن الأشياء الغائبة كأنها حضرت في عقولهم حتى إنهم يكتبون على الله أي يحكمون عليه بما شاءوا وأرادوا .
ثم إنه تعالى لما بالغ في تزييف طريقة الكفار وفي زجرهم عما هم عليه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( فاصبر لحكم ربك ) وفيه وجهان :
الأول : فاصبر لحكم ربك في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم .
والثاني : فاصبر لحكم ربك في أن أوجب عليك التبليغ والوحي وأداء الرسالة ، وتحمل ما يحصل بسبب ذلك من الأذى والمحنة .
ثم قال تعالى : ( ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : العامل في ( إذ ) معنى قوله : ( كصاحب الحوت ) يريد لا تكن كصاحب الحوت حال ندائه ؛ وذلك لأنه في ذلك الوقت كان مكظوما ، فكأنه قيل : لا تكن مكظوما . [ ص: 87 ]
المسألة الثانية : صاحب الحوت يونس عليه السلام ، إذ نادى في بطن الحوت بقوله : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ( الأنبياء : 87 ) ، ( وهو مكظوم ) مملوء غيظا من كظم السقاء إذا ملأه ، والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتبلى ببلائه .
ثم قال تعالى : ( لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم )
وقرئ ( رحمة من ربه ) ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : لم لم يقل : لولا أن تداركته نعمة من ربه ؟
الجواب : إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في ( تداركه ) ، وقرأ ابن عباس ( تداركته ) ، وقرأ وابن مسعود الحسن : ( تداركه ) ، أي تتداركه على حكاية الحال الماضية ، بمعنى لولا أن كان ، يقال فيه : تتداركه ، كما يقال : كان زيد سيقوم فمنعه فلان ، أي كان يقال فيه : سيقوم ، والمعنى كان متوقعا منه القيام .
السؤال الثاني : ما المراد من قوله : ( نعمة من ربه ) ؟
الجواب : المراد من تلك النعمة ، هو أنه تعالى أنعم عليه بالتوفيق للتوبة ، وهذا يدل على أنه لا يتم شيء من الصالحات والطاعات إلا بتوفيقه وهدايته .
السؤال الثالث : أين جواب لولا ؟
الجواب : من وجهين :
الأول : تقدير الآية : لولا هذه النعمة لنبذ بالعراء مع وصف المذمومية ، فلما حصلت هذه النعمة لا جرم لم يوجد النبذ بالعراء مع هذا الوصف ؛ لأنه لما فقد هذا الوصف فقد فقد ذلك المجموع .
الثاني : لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة مذموما ، ويدل على هذا قوله : ( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) ( الصافات : 143 ، 144 ) وهذا كما يقال : عرصة القيامة ؛ وعراء القيامة .
السؤال الرابع : هل يدل قوله : ( وهو مذموم ) على كونه فاعلا للذنب ؟
الجواب : من ثلاثة أوجه :
الأول : أن كلمة ( لولا ) دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل .
الثاني : لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
الثالث : لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله : ( فاجتباه ربه ) والفاء للتعقيب .
السؤال الخامس : ما سبب نزول هذه الآيات ؟
الجواب : يروى أنها نزلت بأحد حين حل برسول الله ما حل ، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا ، وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف .