( لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون ) .
ثم قال تعالى : ( لا بارد ولا كريم ) قال : كرم الظل نفعه الملهوف ، ودفعه أذى الحر عنه ، ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد ، والأقرب أن يقال : فائدة الظل أمران : أحدهما دفع الحر ، والآخر كون الإنسان فيه مكرما ، وذلك لأن الإنسان في البرد يقصد عين الشمس ليتدفأ بحرها إذا كان قليل الثياب ، فإذا كان من المكرمين يكون أبدا في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه في الظل ، أما الحر فظاهر ، [ ص: 148 ] وأما البرد فيدفعه بإدفاء الموضع بإيقاد ما يدفئه ، فيكون الظل في الحر مطلوبا للبرد فيطلب لكونه باردا ، وفي البرد يطلب لكونه ذا كرامة لا لبرد يكون في الظل فقال : ( الزمخشري لا بارد ) يطلب لبرده ، ولا ذي كرامة قد أعد للجلوس فيه ، وذلك لأن المواضع التي يقع عليها ظل كالمواضع التي تحت أشجار وأمام الجدار يتخذ منها مقاعد فتصير تلك المقاعد محفوظة عن القاذورات ، وباقي المواضع تصير مزابل ، ثم إذا وقعت الشمس في بعض الأوقات عليها تطلب لنظافتها ، وكونها معدة للجلوس ، فتكون مطلوبة في مثل هذا الوقت لأجل كرامتها لا لبردها ، فقوله تعالى : ( لا بارد ولا كريم ) يحتمل هذا ، ويحتمل أن يقال : إن الظل يطلب لأمر يرجع إلى الحس ، أو لأمر يرجع إلى العقل ، فالذي يرجع إلى الحس هو برده ، والذي يرجع إلى العقل أن يكون الرجوع إليه كرامة ، وهذا لا برد له ولا كرامة فيه ، وهذا هو المراد بما نقله الواحدي عن الفراء : أن العرب تتبع كل منفي بكريم إذا كان المنفي أكرم فيقال : هذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة ، والتحقيق فيه ما ذكرنا أن وصف الكمال إما حسي ، وإما عقلي ، والحسي يصرح بلفظه ، وأما العقلي فلخفائه عن الحس يشار إليه بلفظ جامع ؛ لأن الكرامة ، والكرامة عند العرب من أشهر أوصاف المدح ، ونفيهما نفي وصف الكمال العقلي ، فيصير قوله تعالى : ( لا بارد ولا كريم ) معناه لا مدح فيه أصلا لا حسا ولا عقلا .
ثم قال تعالى : ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون ) وفي الآيات لطائف ، نذكرها في مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في بيان سبب كونهم في العذاب مع أنه تعالى لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم ، ولم يقل : إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين ؟ فنقول : قد ذكرنا مرارا أن الله تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة ، وعند إيصال العقاب يذكر أعمال المسيئين ؛ لأن الثواب فضل والعقاب عدل ، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم ، وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب ، يظن أن هناك ظلما فقال : هم فيها بسبب ترفهم ، والذي يؤيد هذه اللطيفة أن الله تعالى قال في حق السابقين : ( جزاء بما كانوا يعملون ) [ الواقعة : 24 ] ولم يقل : في حق أصحاب اليمين ، ذلك لأنا أشرنا أن أصحاب اليمين هم الناجون بالفضل العظيم ، وسنبين ذلك في قوله تعالى : ( فسلام لك ) [ الواقعة : 91 ] وإذا كان كذلك فالفضل في حقهم متمحض فقال : هذه النعم لكم ، ولم يقل جزاء ؛ لأن قوله : " جزاء " في مثل هذا الموضع ، وهو موضع العفو عنهم ، لا يثيب لهم سرورا بخلاف من كثرت حسناته ، فيقال له : نعم ما فعلت خذ هذا لك جزاء .
المسألة الثانية : جعل السبب كونهم مترفين وليس كل من هو من يكون مترفا فإن فيهم من يكون فقيرا ؟ نقول قوله تعالى : ( أصحاب الشمال إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ) ليس بذم ، فإن المترف هو الذي جعل ذا ترف أي نعمة ، فظاهر ذلك لا يوجب ذما ، لكن ذلك يبين قبح ما ذكر عنهم بعده وهو قوله تعالى : ( وكانوا يصرون ) ؛ لأن صدور الكفران ممن عليه غاية الإنعام أقبح القبائح فقال : إنهم كانوا مترفين ، ولم يشكروا نعم الله بل أصروا على الذنب وعلى هذا فنقول : النعم التي تقتضي شكر الله وعبادته في كل أحد كثيرة فإن الخلق والرزق وما يحتاج إليه وتتوقف مصالحه عليه حاصل للكل ، غاية ما في الباب أن حال الناس في الإتراف متقارب ، فيقال في حق البعض بالنسبة إلى بعض : إنه في ضر ، ولو حمل نفسه على القناعة لكان أغنى [ ص: 149 ] الأغنياء وكيف لا والإنسان إذا نظر إلى حاله يجدها مفتقرة إلى مسكن يأوي إليه ولباس الحر والبرد وما يسد جوعه من المأكول والمشروب ، وغير هذا من الفضلات التي يحمل عليها شح النفس ، ثم إن أحدا لا يغلب عن تحصيل مسكن باشتراء أو اكتراء ، فإن لم يكن فليس هو أعجز من الحشرات ، لا تفقد مدخلا أو مغارة ، وأما اللباس فلو اقتنع بما يدفع الضرورة كان يكفيه في عمره لباس واحد ، كلما تمزق منه موضع يرقعه من أي شيء كان ، بقي أمر المأكول والمشروب ، فإذا نظر الناظر يجد كل أحد في جميع الأحوال غير مغلوب عن كسرة خبز وشربة ماء ، غير أن طلب الغنى يورث الفقر فيريد الإنسان بيتا مزخرفا ومأكولا طيبا ، وغير ذلك من أنواع الدواب والثياب ، فيفتقر إلى أن يحمل المشاق ، وطلب الغنى يورث فقره ، وارتياد الارتفاع يحط قدره ، وبالجملة شهوة بطنه وفرجه تكسر ظهره ، على أننا نقول في قوله تعالى : ( كانوا قبل ذلك مترفين ) لا شك أن أهل القبور لما فقدوا الأيدي الباطشة ، والأعين الباصرة ، وبان لهم الحقائق ، علموا ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ) بالنسبة إلى تلك الحالة .