[ ص: 135 ] ( وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ) .
ثم قال تعالى : ( وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ) .
وفيها قراءات : الأولى : الرفع وهو المشهور ، ويكون عطفا على " ولدان " ، فإن قيل قال قبله : ( حور مقصورات في الخيام ) [ الرحمن : 72 ] إشارة إلى كونها مخدرة ومستورة ، فكيف يصح قولك : إنه عطف على " ولدان " ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : وهو المشهور أن نقول : هو عطف عليهم في اللفظ لا في المعنى ، أو في المعنى على التقدير والمفهوم ؛ لأن قوله تعالى : ( يطوف عليهم ولدان ) معناه لهم ولدان كما قال تعالى : ( ويطوف عليهم غلمان لهم ) فيكون : ( وحور عين ) بمعنى ولهم حور عين .
وثانيهما : وهو أن يقال : ليست الحور منحصرات في جنس ، بل لأهل الجنة : ( حور مقصورات ) في حظائر معظمات ولهن جواروخوادم ، وحور تطوف مع الولدان السقاة فيكون كأنه قال : . الثانية : الجر عطفا على أكواب وأباريق ، فإن قيل : كيف يطاف بهن عليهم ؟ نقول : الجواب سبق عند قوله : ( يطوف عليهم ولدان ونساء ولحم طير ) أو عطفا على : ( جنات ) أي : ( أولئك المقربون في جنات النعيم ) ( وحور ) وقرئ " حورا عينا " بالنصب ، ولعل الحاصل على هذه القراءة على غير العطف بمعنى العطف لكن هذا القارئ لا بد له من تقدير ناصب فيقول : يؤتون حورا فيقال : قد رافعا ، فقال : ولهم حور عين فلا يلزم الخروج عن موافقة العاطف وقوله تعالى : ( كأمثال اللؤلؤ المكنون ) فيه مباحث :
الأول : الكاف للتشبيه ، والمثل حقيقة فيه ، فلو قال : أمثال اللؤلؤ المكنون لم يكن إلى الكاف حاجة ، فما وجه الجمع بين كلمتي التشبيه ؟ نقول : الجواب المشهور أن كلمتي التشبيه يفيدان التأكيد والزيادة في التشبيه ، فإن قيل : ليس كذلك بل لا يفيدان ما يفيد أحدهما ؛ لأنك إن قلت مثلا : هو كاللؤلؤة للمشبه ، دون المشبه به في الأمر الذي لأجله التشبيه ؟ نقول : التحقيق فيه ، هو أن الشيء إذا كان له مثل فهو مثله ، فإذا قلت : هو مثل القمر لا يكون في المبالغة مثل قولك هو قمر وكذلك قولنا : هو كالأسد ، وهو أسد ، فإذا قلت : كمثل اللؤلؤ كأنك قلت : مثل اللؤلؤ ، وقولك : هو اللؤلؤ أبلغ من قولك : هو كاللؤلؤ ، وهذا البحث يفيدنا ههنا ، ولا يفيدنا في قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) [ الشورى : 11 ] لأن النفي في مقابلة الإثبات ، ولا يفهم معنى النفي من الكلام ما لم يفهم معنى الإثبات الذي يقابله ، فنقول : قوله : ( ليس كمثله شيء ) في مقابلة قول من يقول : كمثله شيء ، فنفى ما أثبته لكن معنى قوله : ( كمثله شيء ) إذا لم نقل بزيادة الكاف هو أن مثل مثله شيء ، وهذا كلام يدل على أن له مثلا ، ثم إن لمثله مثلا ، فإذا قلنا : ليس كذلك كان ردا عليه ، والرد عليه صحيح ، بقي أن يقال : إن الراد على من يثبت أمورا لا يكون نافيا لكل ما أثبته ، فإذا قال قائل : زيد عالم جيد ، ثم قيل ردا عليه : ليس زيد عالما جيدا لا يلزم من هذا أن يكون نافيا لكونه عالما ، فمن يقول : ( ليس كمثله شيء ) بمعنى ليس مثل مثله شيء لا يلزم أن يكون نافيا لمثله ، بل يحتمل أن يكون نافيا لمثل المثل ، فلا يكون الراد أيضا موحدا فيخرج الكلام عن إفادة التوحيد ، فنقول : يكون مفيدا للتوحيد ؛ لأنا إذا قلنا : ليس مثل مثله شيء لزم أن لا يكون له مثل ؛ لأنه لو كان له مثل لكان هو مثل مثله ، وهو شيء بدليل قوله تعالى : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) [ الأنعام : 19 ] فإن حقيقة الشيء هو الموجود فيكون مثل مثله شيء وهو منفي بقولنا : ليس مثل مثله [ ص: 136 ] شيء ، فعلم أن الكلام لا يخرج عن إفادة التوحيد ، فعلم أن الحمل على الحقيقة يفيد في الكلام مبالغة في قوله تعالى : ( كأمثال ) وأما عدم الحمل عليها في قوله : ( ليس كمثله شيء ) فهو أوجز فتجعل الكاف زائدة لئلا يلزم التعطيل ، وهو نفي الإله ، نقول : فيه فائدة ، وهو أن يكون ذلك نفيا مع الإشارة إلى وجه الدليل على النفي ، وذلك لأنه تعالى واجب الوجود ، وقد وافقنا من قال بالشريك ، ولا يخالفنا إلا المعطل ، وذلك إثباته ظاهر ، وإذا كان هو واجب الوجود فلو كان له مثل لخرج عن كونه واجب الوجود ؛ لأنه مع مثله تعادلا في الحقيقة ، وإلا لما كان ذلك مثله وقد تعدد فلا بد من انضمام مميز إليه به يتميز عن مثله ، فلو كان مركبا فلا يكون واجبا ؛ لأن كل مركب ممكن ، فلو كان له مثل لما كان هو هو ، فيلزم من إثبات المثل له نفيه ، فقوله : ( ليس كمثله شيء ) إذا حملناه أنه ليس مثل مثله شيء ، ويكون في مقابلته قول الكافر : مثل مثله شيء فيكون مثبتا لكونه مثل مثله ، ويكون مثله يخرج عن حقيقة نفسه ومنه لا يبقى واجب الوجود فذكر المثلين لفظا يفيد التوحيد مع الإشارة إلى وجه الدليل على بطلان قول المشرك ، ولو قلنا : ليس مثله شيء يكون نفيا من غير إشارة إلى دليل ، والتحقيق فيه أنا نقول في نفي المثل ردا على المشرك : لا مثل لله ، ثم نستدل عليه ونقول : لو كان له مثل لكان هو مثلا لذلك المثل فيكون ممكنا محتاجا فلا يكون إلها ، ولو كان له مثل لما كان الله إلها واجب الوجود ؛ لأن عند فرض مثل له يشاركه بشيء وينافيه بشيء ، فيلزم تركه فلو كان له مثل لخرج عن حقيقة كونه إلها فإثبات الشريك يفضي إلى نفي الإله فقوله : ( ليس كمثله شيء ) توحيد بالدليل وليس مثله شيء توحيد من غير دليل ، وشيء من هذا رأيته في كلام الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعدما فرغت من كتابة هذا مما وافق خاطري خاطره على أني معترف بأني أصبت منه فوائد لا أحصيها ، وأما قوله تعالى : ( اللؤلؤ المكنون ) إشارة إلى غاية صفائهن أي اللؤلؤ الذي لم يغير لونه الشمس والهواء .