( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان )
ثم قال تعالى : ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
وفيه وجهان : أحدهما : أنه حال تقديره : ( ويبقى وجه ربك ) مسئولا وهذا منقول معقول ، وفيه إشكال . وهو أنه يفضي إلى التناقض لأنه لما قال : ( ويبقى وجه ربك ) كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض ، فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولا لمن في الأرض ؟ فأما إذا قلنا : الضمير عائد إلى [ الأمور ] الجارية [ في يومنا ] فلا إشكال في هذا الوجه ، وأما على الصحيح فنقول : عنه أجوبة . أحدها : لما بينا أنه فان نظرا إليه ولا يبقى إلا بإبقاء الله ، فيصح أن يكون الله مسئولا . ثانيها : أن يكون مسئولا معنى لا حقيقة ، لأن الكل إذا فنوا ولم يكن وجود إلا بالله ، فكأن القوم فرضوا سائلين بلسان الحال . ثالثها : أن قوله : ( ويبقى ) للاستمرار فيبقى ويعيد من كان في الأرض ويكون مسئولا . والثاني : أنه ابتداء كلام وهو أظهر وفيه مسائل :
[ ص: 96 ] المسألة الأولى : ماذا يسأله السائلون ؟ فنقول : يحتمل وجوها :
أحدها : أنه سؤال استعطاء . فيسأله كل أحد الرحمة وما يحتاج إليه في دينه ودنياه .
ثانيها : أنه سؤال استعلام أي عنده علم الغيب لا يعلمه إلا هو ، فكل أحد يسأله عن عاقبة أمره وعما فيه صلاحه وفساده . فإن قيل : ليس كل أحد يعترف بجهله وعلم الله . نقول : هذا كلام في حقيقة الأمر من جاهل ، فإن كان من جاهل معاند فهو في الوجه الأول أيضا وارد ، فإن من المعاندين من لا يعترف بقدرة الله فلا يسأله شيئا بلسانه ، وإن كان يسأله بلسان حاله لإمكانه ، والوجه الأول إشارة إلى كمال القدرة ، أي كل أحد عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه . والوجه الثاني إشارة إلى كمال العلم ، أي كل أحد جاهل بما عند الله من المعلومات .
ثالثها : أن ذلك سؤال استخراج أمر . وقوله : ( من في السماوات والأرض ) أي من الملائكة يسألونه كل يوم ويقولون : إلهنا ماذا نفعل وبماذا تأمرنا ، وهذا يصلح جوابا آخر عن الإشكال على قول من قال : يسأله حال لأنه يقول : قال تعالى : ( كل من عليها فان ) ومن عليها تكون الأرض مكانه ومعتمدة ولولاها لا يعيش . وأما من فيها من الملائكة الأرضية فهم فيها وليسوا عليها ولا تضرهم زلزلتها ، فعندما يفنى من عليها ويبقى الله تعالى لا يفنى هؤلاء في تلك الحال فيسألونه ويقولون : ماذا نفعل فيأمرهم بما يأمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ثم يقول لهم : عندما يشاء موتوا فيموتوا . هذا على قول من قال : ( يسأله ) حال وعلى الوجه الآخر لا إشكال .
المسألة الثانية : هو عائد إلى من ؟ نقول : الظاهر المشهور أنه عائد إلى الله تعالى وعليه اتفاق المفسرين ، ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك الشأن فقال : " " ويحتمل أن يقال : هو عائد إلى يوم و ( يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع من يشاء ويضع من يشاء كل يوم ) ظرف سؤالهم أي يقع سؤالهم في كل يوم ، وهو في شأن يكون جملة وصف بها يوم وهو نكرة كما يقال : يسألني فلان كل يوم هو يوم راحتي أي يسألني أيام الراحة ، وقوله : ( هو في شأن ) يكون صفة مميزة للأيام التي فيها شأن عن اليوم الذي قال تعالى فيه : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) [ غافر : 16 ] فإنه تعالى في ذلك اليوم يكون هو السائل وهو المجيب ، ولا يسأل في ذلك اليوم لأنه ليس يوما هو في شأن يتعلق بالسائلين من الناس والملائكة وغيرهم ، وإنما يسألونه في يوم هو في شأن يتعلق بهم فيطلبون ما يحتاجون إليه أو يستخرجون أمره بما يفعلون فيه ، فإن قيل : فهذا ينافي ما ورد في الخبر ، نقول : لا منافاة لقوله عليه السلام في جواب من قال : ما هذا الشأن ؟ فقال : " " أي فالله تعالى جعل بعض الأيام موسومة بوسم يتعلق بالخلق من مغفرة الذنوب والتفريج عن المكروب فقال تعالى : ( يغفر ذنبا [ ويفرج كربا ] يسأله من في السماوات والأرض ) في تلك الأيام التي في ذلك الشأن ، وجعل بعضها موسومة بأن لا داعي فيها ولا سائل ، وكيف لا نقول بهذا ، ولو تركنا كل يوم على عمومه لكان كل يوم فيه فعل وأمر وشأن فيفضي ذلك إلى القول بالقدم والدوام ، اللهم إلا أن يقال : عام دخله التخصيص كقوله تعالى : ( وأوتيت من كل شيء ) [ النمل : 23 ] و ( تدمر كل شيء ) [ الأحقاف : 25 ] .
المسألة الثالثة : فعلى المشهور يكون الله تعالى في كل يوم ووقت في شأن ، وقد جف القلم بما هو كائن ، نقول : فيه أجوبة منقولة في غاية الحسن فلا نبخل بها وأجوبة معقولة نذكرها بعدها : ( أما المنقولة ) فقال بعضهم : المراد سوق المقادير إلى المواقيت ، ومعناه أن القلم جف بما يكون في كل [ يوم و ] وقت ، فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيه فيوجد ، وهذا وجه حسن لفظا ومعنى ، وقال بعضهم : شئون يبديها لا [ ص: 97 ] شئون يبتديها ، وهو مثل الأول معنى ، أي لا يتغير حكمه بأنه سيكون ، ولكن يأتي وقت قدر الله فيه فعله فيبدو فيه ما قدره الله ، وهذان القولان ينسبان إلى الحسن بن الفضل أجاب بهما ، وقال بعضهم : ( عبد الله بن طاهر يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) [ الروم : 19 ] ويشفي سقيما ويمرض سليما ، ويعز ذليلا ويذل عزيزا ، إلى غير ذلك وهو مأخوذ من قوله عليه السلام : " " وهو أحسن وأبلغ حيث بين أمرين أحدهما يتعلق بالآخرة والآخر بالدنيا ، وقدم الأخروي على الدنيوي ( وأما المعقولة ) : فهي أن نقول هذا بالنسبة إلى الخلق ، ومن يسأله من أهل السماوات والأرض لأنه تعالى حكم بما أراد وقضى وأبرم فيه حكمه وأمضى ، غير أن ما حكمه يظهر كل يوم ، فنقول : أبرم الله اليوم رزق فلان ولم يرزقه أمس ، ولا يمكن أن يحيط علم خلقه بما أحاط به علمه ، فتسأله الملائكة كل يوم إنك يا إلهنا في هذا اليوم في أي شأن في نظرنا وعلمنا . الثاني : هو أن الفعل يتحقق بأمرين من جانب الفاعل بأمر خاص ، ومن جانب المفعول في بعض الأمور ، ولا يمكن غيره وعلى وجه يختاره الفاعل من وجوه متعددة : يغفر ذنبا ويفرج كربا
( مثال الأول ) : تحريك الساكن لا يمكن إلا بإزالة السكون عنه والإتيان بالحركة عقيبه من غير فصل .
( ومثال الثاني ) : تسكين الساكن فإنه يمكن مع إبقاء السكون فيه ومع إزالته عقيبه من غير فصل أو مع فصل ، إذ يمكن أن يزيل عنه السكون ولا يحركه مع بقاء الجسم ، إذا عرفت هذا فالله تعالى خلق الأجسام الكثيرة في زمان واحد ، وخلق فيها صفات مختلفة في غير ذلك الزمان ، فإيجادها فيه لا في زمان آخر بعد ذلك الزمان . فمن خلقه فقيرا في زمان لم يمكن خلقه غنيا في عين ذلك الزمان مع خلقه فقيرا فيه وهذا ظاهر ، والذي يظن أن ذلك يلزم منه العجز أو يتوهم فليس كذلك بل العجز في خلاف ذلك ؛ لأنه لو خلقه فقيرا في زمان يريد كونه غنيا لما وقع الغنى فيه مع أنه أراده ، فيلزم العجز من خلاف ما قلنا ، لا فيما قلنا ، فإذن كل زمان هو غير الزمان الآخر فهو معنى قوله : ( كل يوم هو في شأن ) وهو المراد من قول المفسرين : أغنى فقيرا وأفقر غنيا ، وأعز ذليلا وأذل عزيزا ، إلى غير ذلك من الأضداد . ثم اعلم أن الضدين ليسا منحصرين في مختلفين ، بل المثلان في حكمهما فإنهما لا يجتمعان ، فمن وجد فيه حركة إلى مكان في زمان لا يمكن أن توجد فيه في ذلك الزمان حركة أخرى أيضا إلى ذلك المكان ، وليس شأن الله مقتصرا على إفقار غني أو إغناء فقير في يومنا دون إفقاره أو إغنائه أمس ، ولا يمكن أن يجمع في زيد إغناء هو أمسي مع إغناء هو يومي ، فالغنى المستمر للغني في نظرنا في الأمر متبدل الحال ، فهو أيضا من شأن الله تعالى ، واعلم أن ، ومعناه أن الشأن الواحد لا يصير مانعا له تعالى عن شأن آخر كما أنه يكون مانعا لنا ، مثاله : واحد منا إذا أراد تسويد جسم بصبغة يسخنه بالنار ، أو تبييض جسم يبرده بالماء . والماء والنار متضادان إذا طلب منه أحدهما وشرع فيه يصير ذلك مانعا له من فعل الآخر ، وليس ذلك الفعل مانعا من الفعل لأن تسويد جسم وتبييض آخر لا تنافي بينهما ، وكذلك تسخينه وتسويده بصبغة لا تنافي فيه ، فالفعل صار مانعا للفاعل من فعله ولم يصر مانعا من الفعل ، وفي حق الله ما لا يمنع الفعل لا يمنع الفاعل ، فيوجد تعالى من الأفعال المختلفة ما لا يحصر ولا يحصى في آن واحد ، أما ما يمنع من الفعل كالذي يسود جسما في آن لم يمكنه أن يبيضه في ذلك الآن ، فهو قد يمنع الفاعل أيضا وقد لا يمنع ولكن لا بد من منعه للفاعل ، فالتسويد لا يمكن معه التبييض ، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن أصلا لكن أسبابه تمنع أسبابا أخر لا تمنع الفاعل . إذا علمت هذا البحث فقد أفادك . الله تعالى يوصف بكونه : لا يشغله شأن عن شأن