( فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون )
ثم قال تعالى : ( فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ) أي إذا تبين أنهم لا يرجعون فدعهم حتى يلاقوا ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ( فذرهم ) أمر وكان يجب أن يقال لم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم جواز دعائهم إلى الإسلام ، وليس كذلك ، والجواب عنه من وجوه :
أحدها : أن هذه الآيات مثل قوله تعالى : ( فأعرض ) [ السجدة : 30] ( تول عنهم ) [ الصافات : 78] إلى غير ذلك كلها منسوخة بآية القتال وهو ضعيف .
ثانيها : ليس المراد الأمر وإنما المراد التهديد كما يقول سيد العبد الجاني لمن ينصحه : دعه فإنه سينال وبال جنايته .
ثالثها : أن المراد من يعاند وهو غير معين والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الخلق على سبيل العموم ، ويجوز أن يكون المراد بالخطاب من لم يظهر عناده لا من ظهر عناده فلم يقل الله في حقه ( فذرهم ) ويدل على هذا أنه تعالى قال من قبل ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) [ الطور : 29] وقال هاهنا ( فذرهم ) فمن يذكرهم هم المشفقون الذين قالوا ( إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ) [ الطور : 26] ومن يذرهم الذين قالوا ( شاعر نتربص به ريب المنون ) [ الطور : 30] إلى غير ذلك .
المسألة الثانية : حتى للغاية ، فيكون كأنه تعالى قال : ذرهم إلى ذلك اليوم ولا تكلمهم ثم ذلك اليوم [ ص: 233 ] تجدد الكلام وتقول : ألم أقل لكم إن الساعة آتية ، وإن الحساب يقوم والعذاب يدوم ، فلا تكلمهم إلى ذلك اليوم ثم كلمهم لتعلمهم . ثانيها : أن الغاية التي يستعمل فيها اللام كما يقول القائل لا تطعمه حتى يموت أي ليموت ، لأن اللام التي للغرض عندها ينتهي الفعل الذي للغرض فيوجد فيها معنى الغاية ومعنى التعليل ، ويجوز استعمال الكلمتين فيها ولعل المراد من قوله تعالى : ( المراد من حتى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 99] هذا أي إلى أن يأتيك اليقين ، فإن قيل فمن لا يذره أيضا يلاقي ذلك اليوم ، نقول المراد من قوله ( يصعقون ) يهلكون فالمذكر المشفق لا يهلك ويكون مستثنى منهم كما قال تعالى : ( فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) [ الزمر : 68] وقد ذكرنا هناك أن من اعترف بالحق وعلم أن يوم الحساب كائن فإذا وقعت الصيحة يكون كمن يعلم أن الرعد يرعد ويستعد لسماعه ، ومن لا يعلم يكون كالغافل ، فإذا وقعت الصيحة ارتجف الغافل ولم يرتجف العالم ، وحينئذ يكون التوعد بملاقاة يومهم لأن وإنما يكون بملاقاة يومهم الذي فيه يصعقون ، أي اليوم الموصوف بهذه الصفة ، وهذا كما قال تعالى : ( كل أحد يلاقي يومه لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ) [ القلم : 49] فإن المنفي ليس النبذ بالعراء لأنه تحقق بدليل قوله تعالى : ( فنبذناه بالعراء وهو سقيم ) [ الصافات : 145] وإنما المنفي النبذ الذي يكون معه مذموما وهذا لم يوجد .
المسألة الثالثة : ( المستقبل تارة ويرفع أخرى والفاصل بينهما أن الفعل إذا كان مستقبلا منتظرا لا يقع في الحال ينصب تقول تعلمت الفقه حتى ترتفع درجتي فإنك تنتظره ، وإن كان حالا يرفع تقول أكرر حتى تسقط قوتي ثم أنام ، والسبب فيه هو أن ( حتى ) المستقبل للغاية ولام التعليل للغرض والغرض غاية الفعل ، تقول لم تبني الدار ؟ يقول للسكنى فصار قوله حتى ترفع كقوله لأرفع وفيهما إضمار ( أن ) ، فإن قيل ما قلت شيئا وما ذكرت السبب في النصب عند إرادة الاستقبال والرفع عند إرادة الحال ، نقول الفعل المستقبل إذا كان منتظرا وكان نصب العين ومنصوبا لدى الذهن يرقبه يفعل بلفظه ما كان في معناه ، ولهذا قالوا في الإضافة أن المضاف لما جر أمرا إلى أمر في المعنى جزء في اللفظ ، والذي يؤيد ما ذكرنا أن الفعل إنما ينصب بأن ولن وكي وإذن ، وخلوص الفعل للاستقبال في هذه المواضع لازم ، والحرف الذي يجعل الفعل للحال يمنع النصب حيث لا يجوز أن تقول إن فلانا ليضرب فإن قيل : السين وسوف مع أنهما يخلصان الفعل للاستقبال لا ينصبان ويمنعان النصب بالناصب كما في قوله تعالى : ( حتى ) ينصب ما بعدها من الفعل علم أن سيكون منكم مرضى ) [ المزمل : 20] نقول : سوف والسين ليسا بمعنى غير اختصاص الفعل بالاستقبال ، وأن ولن بمعنى لا يصح إلا في الاستقبال ، فلم يثبت بالسين إلا الاستقبال ولم يثبت به معنى في الاستقبال ، والمنتظر هو ما في الاستقبال لا نفس الاستقبال ، مثاله إذا قلت أعبد الله كي يغفر لي أو ليغفر لي أثبتت ( كي ) غرضا وهو المغفرة ، وهي في المستقبل من الزمان ، وإذا قلت : أستغفرك ربي أثبتت السين استقبال المغفرة ، وفرق بين ما يكون المقصود من الكلام بيان الاستقبال ، لكن الاستقبال لا يوجد إلا في معنى ، فأتى بالمعنى ليبين به الاستقبال وبين ما يكون المقصود منه معنى في المستقبل فتذكر الاستقبال لتبين محل مقصودك .