المسألة الخامسة : إنما
nindex.php?page=treesubj&link=20758_32264وصف الله القرآن بكونه ( عربيا ) في معرض المدح والتعظيم وهذا المطلوب لا يتم إلا إذا ثبت أن لغة العرب أفضل اللغات .
واعلم أن هذا المقصود إنما يتم إذا ضبطنا أقسام فضائل اللغات بضابط معلوم ، ثم بينا أن تلك الأقسام حاصلة فيه لا في غيره ، فنقول : لا شك أن الكلام مركب من الكلمات المفردة ، وهي مركبة من الحروف ، فالكلمة لها مادة وهي الحروف ، ولها صورة وهي تلك الهيئة المعينة الحاصلة عند التركيب . فهذه الفضيلة إنما تحصل إما بحسب مادتها أو بحسب صورتها ، أما التي بحسب مادتها فهي آحاد الحروف ، واعلم أن
[ ص: 84 ] الحروف على قسمين :
بعضها بينة المخارج ظاهرة المقاطع ، وبعضها خفية المخارج مشتبهة المقاطع ، وحروف العرب بأسرها ظاهرة المخارج بينة المقاطع ، ولا يشتبه شيء منها بالآخر .
وأما الحروف المستعملة في سائر اللغات فليست كذلك بل قد يحصل فيها حرف يشتبه بعضها بالبعض ، وذلك يخل بكمال الفصاحة ، وأيضا الحركات المستعملة في سائر لغة العرب حركات ظاهرة جلية وهي النصب والرفع والجر ، وكل واحد من هذه الثلاثة فإنه يمتاز عن غيره امتيازا ظاهرا جليا ، وأما الإشمام والروم فيقل حصولهما في لغات العرب ، وذلك أيضا من جنس ما يوجب الفصاحة ، وأما الكلمات الحاصلة بحسب التركيب فهي أنواع :
أحدها : أن الحروف على قسمين : متقاربة المخرج ومتباعدة المخرج ، وأيضا الحروف على قسمين منها صلبة ومنها رخوة ، فيحصل من هذا التقسيم أقسام أربعة : الصلبة المتقاربة ، والرخوة المتقاربة ، والصلبة المتباعدة ، والرخوة المتباعدة ، فإذا توالى في الكلمة حرفان صلبان متقاربان ، صعب اللفظ بها ؛ لأن بسبب تقارب المخرج يصير التلفظ بها جاريا مجرى ما إذا كان الإنسان مقيدا ثم يمشي ، وبسبب صلابة تلك الحروف تتوارد الأعمال الشاقة القوية على الموضع الواحد من المخرج ، وتوالي الأعمال الشاقة يوجب الضعف والإعياء ، ومثل هذا التركيب في اللغة العربية قليل .
وثانيها : أن جنس بعض الحروف ألذ وأطيب في السمع ، وكل كلمة يحصل فيها حرف من هذا الجنس كان سماعها أطيب .
وثالثها : الوزن ، فنقول : الكلمة إما أن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية ، وأعدلها هو الثلاثي ؛ لأن الصوت إنما يتولد بسبب الحركة ، والحركة لا بد لها من مبدأ ووسط ومنتهى ، فهذه ثلاث مراتب ، فالكلمة لا بد وأن يحصل فيها هذه المراتب الثلاثة حتى تكون تامة ، أما الثنائية فهي ناقصة ، وأما الرباعية فهي زائدة ، والغائب في كلام العرب الثلاثيات ، فثبت بما ذكرنا ضبط فصائل اللغات ، والاستقراء يدل على أن لغة العرب موصوفة بها ، وأما سائر اللغات فليست كذلك ، والله أعلم .
المسألة السادسة : قوله : ( لقوم يعلمون ) يعني إنما جعلناه ( عربيا ) لأجل أن يعلموا المراد منه ، والقائلون بأن
nindex.php?page=treesubj&link=28787أفعال الله معللة بالمصالح والحكم ، تمسكوا بهذه الآية وقالوا : إنها تدل على أنه إنما جعله ( عربيا ) لهذه الحكمة ، فهذا يدل على أن تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه جائز .
المسألة السابعة : قال قوم : القرآن كله غير معلوم بل فيه ما يعلم وفيه ما لا يعلم ، وقال المتكلمون لا يجوز أن يحصل فيه شيء غير معلوم ، والدليل عليه قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=3كتاب فصلت آياته قرآنا ) يعني إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما والقول بأنه غير معلوم يقدح فيه .
المسألة الثامنة : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=4فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ) يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28783الهادي من هداه الله وأن الضال من أضله الله وتقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته وبالوقوف على معانيه ؛ لأنا بينا أن كونه نازلا من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع وأجل المطالب ، وكونه (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=3قرآنا عربيا ) مفصلا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان ، وكونه (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=4بشيرا ونذيرا ) يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات ؛ لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات ، وقد حصلت هذه الموجبات الثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن وفي شدة الميل إلى الإحاطة به ، ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ونبذوه وراء ظهورهم ، وذلك يدل على
[ ص: 85 ] أنه لا مهدي إلا من هداه الله ، ولا ضال إلا من أضله الله .
واعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولا يسمعونه ، بين أنهم صرحوا بهذه النفرة والمباعدة ، وذكروا ثلاثة أشياء أحدها : أنهم قالوا (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) وأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء ، والكنان هو الذي يجعل فيه السهام .
وثانيها : قولهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5وفي آذاننا وقر ) أي صمم وثقل من استماع قولك .
وثالثها : قولهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5ومن بيننا وبينك حجاب ) والحجاب هو الذي يمنع من الرؤية ، والفائدة في كلمة " من " في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5ومن بيننا ) أنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب ، لكان المعنى أن حجابا حصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة لفظ " من " كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة الحاصلة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب ، وما بقي جزء منها فارغا عن هذا الحجاب فكانت هذه اللفظة دالة على قوة هذا الحجاب ، هكذا ذكره صاحب " الكشاف " وهو في غاية الحسن .
واعلم أنه إنما وقع الاقتصار على هذه الأعضاء الثلاثة ، وذلك لأن القلب محل المعرفة وسلطان البدن ، والسمع والبصر هما الآلتان المعينتان لتحصيل المعارف ، فلما بين أن هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقصى ما يمكن في هذا الباب .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِنَّمَا
nindex.php?page=treesubj&link=20758_32264وَصَفَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ ( عَرَبِيًّا ) فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَهَذَا الْمَطْلُوبُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْضَلُ اللُّغَاتِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ضَبَطْنَا أَقْسَامَ فَضَائِلِ اللُّغَاتِ بِضَابِطٍ مَعْلُومٍ ، ثُمَّ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَقْسَامَ حَاصِلَةٌ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ ، فَنَقُولُ : لَا شَكَ أَنَّ الْكَلَامَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُفْرَدَةِ ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحُرُوفِ ، فَالْكَلِمَةُ لَهَا مَادَّةٌ وَهِيَ الْحُرُوفُ ، وَلَهَا صُورَةٌ وَهِيَ تِلْكَ الْهَيْئَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ . فَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِمَّا بِحَسَبِ مَادَّتِهَا أَوْ بِحَسَبِ صُورَتِهَا ، أَمَّا الَّتِي بِحَسَبِ مَادَّتِهَا فَهِيَ آحَادُ الْحُرُوفِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ
[ ص: 84 ] الْحُرُوفَ عَلَى قِسْمَيْنِ :
بَعْضُهَا بَيِّنَةُ الْمَخَارِجِ ظَاهِرَةُ الْمَقَاطِعِ ، وَبَعْضُهَا خَفِيَّةُ الْمَخَارِجِ مُشْتَبِهَةُ الْمَقَاطِعِ ، وَحُرُوفُ الْعَرَبِ بِأَسْرِهَا ظَاهِرَةُ الْمَخَارِجِ بَيِّنَةُ الْمَقَاطِعِ ، وَلَا يَشْتَبِهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْآخَرِ .
وَأَمَّا الْحُرُوفُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا حَرْفٌ يَشْتَبِهُ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ ، وَذَلِكَ يُخِلُّ بِكَمَالِ الْفَصَاحَةِ ، وَأَيْضًا الْحَرَكَاتُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي سَائِرِ لُغَةِ الْعَرَبِ حَرَكَاتٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ وَهِيَ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ وَالْجَرُّ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ امْتِيَازًا ظَاهِرًا جَلِيًّا ، وَأَمَّا الْإِشْمَامُ وَالرَّوْمُ فَيَقِلُّ حُصُولُهُمَا فِي لُغَاتِ الْعَرَبِ ، وَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ جِنْسِ مَا يُوجِبُ الْفَصَاحَةَ ، وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الْحَاصِلَةُ بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ فَهِيَ أَنْوَاعٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْحُرُوفَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُتَقَارِبَةُ الْمَخْرَجِ وَمُتَبَاعِدَةُ الْمَخْرَجِ ، وَأَيْضًا الْحُرُوفُ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا صُلْبَةٌ وَمِنْهَا رَخْوَةٌ ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ : الصُّلْبَةُ الْمُتَقَارِبَةُ ، وَالرِّخْوَةُ الْمُتَقَارِبَةُ ، وَالصُّلْبَةُ الْمُتَبَاعِدَةُ ، وَالرِّخْوَةُ الْمُتَبَاعِدَةُ ، فَإِذَا تَوَالَى فِي الْكَلِمَةِ حَرْفَانِ صُلْبَانِ مُتَقَارِبَانِ ، صَعُبَ اللَّفْظُ بِهَا ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ تَقَارُبِ الْمَخْرَجِ يَصِيرُ التَّلَفُّظُ بِهَا جَارِيًا مَجْرَى مَا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُقَيَّدًا ثُمَّ يَمْشِي ، وَبِسَبَبِ صَلَابَةِ تِلْكَ الْحُرُوفِ تَتَوَارَدُ الْأَعْمَالُ الشَّاقَّةُ الْقَوِيَّةُ عَلَى الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمَخْرَجِ ، وَتَوَالِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ يُوجِبُ الضَّعْفَ وَالْإِعْيَاءَ ، وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَلِيلٌ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ جِنْسَ بَعْضِ الْحُرُوفِ أَلَذُّ وَأَطْيَبُ فِي السَّمْعِ ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ يَحْصُلُ فِيهَا حَرْفٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَانَ سَمَاعُهَا أَطْيَبَ .
وَثَالِثُهَا : الْوَزْنُ ، فَنَقُولُ : الْكَلِمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ ثُنَائِيَّةً أَوْ ثُلَاثِيَّةً أَوْ رُبَاعِيَّةً ، وَأَعْدَلُهَا هُوَ الثُّلَاثِيُّ ؛ لِأَنَّ الصَّوْتَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ بِسَبَبِ الْحَرَكَةِ ، وَالْحَرَكَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَبْدَأٍ وَوَسَطٍ وَمُنْتَهًى ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ ، فَالْكَلِمَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ فِيهَا هَذِهِ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثَةُ حَتَّى تَكُونَ تَامَّةً ، أَمَّا الثُّنَائِيَّةُ فَهِيَ نَاقِصَةٌ ، وَأَمَّا الرُّبَاعِيَّةُ فَهِيَ زَائِدَةٌ ، وَالْغَائِبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الثُّلَاثِيَّاتُ ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا ضَبْطُ فَصَائِلِ اللُّغَاتِ ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ مَوْصُوفَةٌ بِهَا ، وَأَمَّا سَائِرُ اللُّغَاتِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) يَعْنِي إِنَّمَا جَعَلْنَاهُ ( عَرَبِيًّا ) لِأَجْلِ أَنْ يَعْلَمُوا الْمُرَادَ مِنْهُ ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28787أَفْعَالَ اللَّهِ مُعَلَّلَةٌ بِالْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ ، تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا : إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَهُ ( عَرَبِيًّا ) لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ جَائِزٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : الْقُرْآنُ كُلُّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ فِيهِ مَا يُعْلَمُ وَفِيهِ مَا لَا يُعْلَمُ ، وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=3كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا ) يَعْنِي إِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عَرَبِيًّا لِيَصِيرَ مَعْلُومًا وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ يَقْدَحُ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=4فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28783الْهَادِيَ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَنَّ الضَّالَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الصِّفَاتِ التِّسْعَةَ الْمَذْكُورَةَ لِلْقُرْآنِ تُوجِبُ قُوَّةَ الِاهْتِمَامِ بِمَعْرِفَتِهِ وَبِالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهِ ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَوْنَهُ نَازِلًا مِنْ عِنْدِ الْإِلَهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى أَفْضَلِ الْمَنَافِعِ وَأَجَلِّ الْمَطَالِبِ ، وَكَوْنُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=3قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) مُفَصَّلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ ، وَكَوْنُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=4بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَى فَهْمٍ مَا فِيهِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ ؛ لِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى الثَّوَابِ أَوْ إِلَى الْعِقَابِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ ، وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُوجِبَاتُ الثَّلَاثَةُ فِي تَأْكِيدِ الرَّغْبَةِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَفِي شِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى
[ ص: 85 ] أَنَّهُ لَا مَهْدِيَّ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ ، وَلَا ضَالَّ إِلَّا مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَا يَسْمَعُونَهُ ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِهَذِهِ النَّفْرَةِ وَالْمُبَاعَدَةِ ، وَذَكَرُوا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ قَالُوا (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) وَأَكِنَّةٌ جَمْعُ كِنَانٍ كَأَغْطِيَةٍ جَمْعِ غِطَاءٍ ، وَالْكِنَانُ هُوَ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ السِّهَامُ .
وَثَانِيهَا : قَوْلُهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ) أَيْ صَمَمٌ وَثِقَلٌ مِنِ اسْتِمَاعِ قَوْلِكَ .
وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) وَالْحِجَابُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ ، وَالْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=5وَمِنْ بَيْنِنَا ) أَنَّهُ لَوْ قِيلَ : وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ ، لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ حِجَابًا حَصَلَ وَسَطَ الْجِهَتَيْنِ ، وَأَمَّا بِزِيَادَةِ لَفْظِ " مِنْ " كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْحِجَابَ ابْتَدَأَ مِنَّا وَابْتَدَأَ مِنْكَ ، فَالْمَسَافَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مُسْتَوْعَبَةٌ بِالْحِجَابِ ، وَمَا بَقِيَ جُزْءٌ مِنْهَا فَارِغًا عَنْ هَذَا الْحِجَابِ فَكَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ دَالَّةً عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْحِجَابِ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْمَعْرِفَةِ وَسُلْطَانُ الْبَدَنِ ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُمَا الْآلَتَانِ الْمُعَيَّنَتَانِ لِتَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَحْجُوبَةٌ كَانَ ذَلِكَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الْبَابِ .