ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
أي : لا عيب فيهم إلا هذا ، وهو ليس بعيب ، فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه ، فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه ، وهذا ليس باتقاء ، فلا قدرة لهم على الاتقاء ألبتة ، ويقال أيضا : إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ، ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، إذا عرفت هذا فنقول : جوابه محذوف ، وتقديره : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره ، وسوء العذاب شدته .
ثم قال تعالى : ( وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ) ولما بين الله تعالى كيفية بين أيضا كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا ، فقال : ( عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) ، وهذا تنبيه على حال هؤلاء ؛ لأن الفاء في قوله : ( فأتاهم العذاب ) تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب ، فإذا كان التكذيب حاصلا ههنا لزم حصول العذاب ؛ استدلالا بالعلة على المعلول ، وقوله : ( من حيث لا يشعرون ) أي : من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها ، بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها ، ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضا أنه أتاهم الخزي ، وهو الذل والصغار والهوان ، والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقرونا بالهوان والذل .
ثم قال : ( ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره ، فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع ، والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب ، فلما ذكر الله تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب بين [ ص: 240 ] تعالى أنه بلغت هذه البيانات إلى حد الكمال والتمام ، فقال : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ) والمقصود ظاهر ، وقالت المعتزلة : دلت الآية على أن ، ودلت أيضا على أنه يريد الإيمان والمعرفة من الكل ؛ لأن قوله : ( أفعال الله وأحكامه معللة ولقد ضربنا للناس ) مشعر بالتعليل ، وقوله في آخر الآية : ( لعلهم يتذكرون ) مشعر بالتعليل أيضا ، ومشعر بأن المقصود من ضرب هذه الأمثال إرادة حصول التذكر والعلم ، ولما كانت هذه البيانات النافعة والبينات الباهرة موجودة في القرآن ، لا جرم ، فقال : ( وصف القرآن بالمدح والثناء قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه :
الأول : أن قوله : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ) يدل على أنه تعالى إنما ذكر هذه الأمثال ليحصل لهم التذكر ، والشيء الذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثا ، فإن القديم هو الذي يكون موجودا في الأزل ، وهذا يمتنع أن يقال : إنه إنما أتى به لغرض كذا وكذا .
والثاني : أنه وصفه بكونه عربيا ، وإنما كان عربيا لأن هذه الألفاظ إنما صارت دالة على هذه المعاني بوضع العرب وباصطلاحهم ، وما كان حصوله بسبب أوضاع العرب واصطلاحاتهم كان مخلوقا محدثا .
الثالث : أنه وصفه بكونه قرآنا ، والقرآن عبارة عن القراءة ، والقراءة مصدر ، والمصدر هو المفعول المطلق ، فكان فعلا ومفعولا ، والجواب : أنا نحمل كل هذه الوجوه على الحروف والأصوات ، وهي حادثة ومحدثة .
المسألة الثانية : قال الزجاج : قوله ( عربيا ) منصوب على الحال ، والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ، ويجوز أن ينتصب على المدح .
المسألة الثالثة : أنه تعالى وصفه بثلاثة :
أولها : كونه قرآنا ، والمراد كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة ، كما قال : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ الحجر : 9 ] .
وثانيها : كونه عربيا ، والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) [ الإسراء : 88 ] .
وثالثها : كونه ( غير ذي عوج ) والمراد براءته عن التناقض ، كما قال : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ، وأما قوله : ( لعلهم يتقون ) ، فالمعتزلة يتمسكون به في تعليل أحكام الله تعالى .
وفيه بحث آخر : وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى : ( لعلهم يتذكرون ) ، وقال في هذه الآية : ( لعلهم يتقون ) ، والسبب فيه أن التذكر متقدم على الاتقاء ، لأنه إذا تذكره وعرفه ووقف على فحواه وأحاط بمعناه ، حصل الاتقاء والاحتراز ، والله أعلم .