( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون )
ثم قال تعالى : ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) وهذا في غاية الحسن ، وذلك من حيث إنه لما قال : ( اتبعوا المرسلين ) كأنهم منعوا كونهم مرسلين ، فنزل درجة وقال : لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة وطالبون للاستقامة ، والطريق إذا حصل فيه دليل يدل يجب اتباعه ، والامتناع من الاتباع لا يحسن إلا عند أحد أمرين : إما مغالاة الدليل في طلب الأجرة ، وإما عند عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفته الطريق ، لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق ، فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين ، أليسوا بمهتدين ؟ فاتبعوهم .
ثم قال تعالى : ( وما لي لا أعبد الذي فطرني ) لما قال : ( وهم مهتدون ) بين ظهور اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القيوم ، ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع .
وفيه لطائف :
الأولى : قوله : ( ما لي ) أي ما لي مانع من جانبي . إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه ، فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع ، ولا مانع من جانبي فلا جرم عبدته ، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى .
ولطيفة ثانية : وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم ، لم يكن في البيان مثل قوله : ( وما لي ) لأنه لما قال : ( وما لي ) وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو يبين عدم المانع ، وأما لو قال : ( ما لكم ) جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه ، فإن قيل : قال الله : ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) ( نوح : 13 ) نقول : القائل هناك غير مدعو ، وإنما هو داع وههنا الرجل مدعو إلى الإيمان ، فقال ( وما لي لا أعبد ) وقد طلب مني ذلك .
الثالثة : قوله : ( الذي فطرني ) إشارة إلى وجود المقتضى ، فإن قوله : ( وما لي ) إشارة إلى عدم المانع [ ص: 50 ] وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى ، فقوله : ( الذي فطرني ) ينبئ عن الاقتضاء ، فإن ، ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم شكر نعمته . الخالق ابتداء مالك ، والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه
الرابعة : قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى مع أن المستحسن تقديم المقتضى حيث وجد المقتضي ولا مانع ، فيوجد لأن المقتضى لظهوره كان مستغنيا عن البيان رأسا فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه .
الخامسة : اختار من الآيات فطرة نفسه ؛ لأنه لما قال : ( وما لي لا أعبد ) بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه ، وبيان ذلك هو أن خالق عمرو يجب على زيد عبادته لأن من خلق عمرا لا يكون إلا كامل القدرة شامل العلم واجب الوجود ، وهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف ، لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجابا .
واعلم أن المشهور في قوله : ( فطرني ) خلقني اختراعا وابتداعا ، والغريب فيه أن يقال : ( فطرني ) أي جعلني على الفطرة ، كما قال الله تعالى : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ( الروم : 3 ) وعلى هذا فقوله : ( وما لي لا أعبد ) أي لم يوجد في مانع فأنا باق على فطرة ربي ، ، فإن قيل : فعلى هذا يختلف معنى الفطر في قوله : ( الفطرة كافية في الشهادة والعبادة فاطر السماوات ) ( الأنعام : 14 ) فنقول قد قيل بأن (فاطر السماوات ) من الفطر الذي هو الشق فالمحذور لازم ، أو نقول : المعنى فيهما واحد كأنه قال : فطر المكلف على فطرته وفطر السماوات على فطرتها ، والأول من التفسير أظهر .
وقوله تعالى : ( وإليه ترجعون ) إشارة إلى كما قال : ادعوه خوفا وطمعا ، وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى ، وفيه أيضا معنى لطيف ، وهو أن العابد على أقسام ثلاثة ذكرناها مرارا . الخوف والرجاء
فالأول : ، كالعبد الذي يجب عليه خدمة سيده سواء أحسن إليه أو أساء . عابد يعبد الله ، لكونه إلها مالكا سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم
والثاني : عابد يعبد الله للنعمة الواصلة إليه .
والثالث : . عابد يعبد الله خوفا
مثال الأول : من يخدم الجواد .
ومثال الثاني : من يخدم الغاشم ، فجعل القائل نفسه من القسم الأعلى ، وقال : ( وما لي لا أعبد الذي فطرني ) هو مالكي أعبده لأنظر إلى ما سيعطيني ، ولأنظر إلى أن لا يعذبني ، وجعلهم دون ذلك فقال : ( وإليه ترجعون ) أي خوفكم منه ورجاؤكم فيه فكيف لا تعبدونه ؟ ولهذا لم يقل : وإليه أرجع ، كما قال فطرني ؛ لأنه صار عابدا من القسم الأول ، فرجوعه إلى الله لا يكون إلا للإكرام ، وليس سبب عبادته ذلك بل غيره .