( ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا )
ثم قال تعالى : ( ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما )
يعني أرسل الرسل . ، لأن الصادق محاسب والكافر معذب ، وهذا كما قال وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب علي عليه السلام : “ الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب “ وهذا مما يوجب الخوف العام فيتأكد قوله : ( ياأيها النبي اتق الله ) .
( ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون )
تحقيقا لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معه خوف من أحد ; وذلك لأن حيث اجتمع المشركون بأسرهم واقعة اجتماع الأحزاب واشتداد الأمر على الأصحاب واليهود بأجمعهم ونزلوا على المدينة وعمل النبي عليه السلام الخندق ، كان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغا إلى الغاية ، والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمنهم من الخوف ، فإنه كاف أمره ولا يأمن مكره فإنه قادر على كل [ ص: 172 ] ممكن فكان قادرا على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم كانوا ضعفاء كما قهر الكافرين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم ، وقوله : ( فينبغي أن لا يخاف العبد غير ربه فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ) إشارة إلى ما فعل الله بهم من إرسال ريح باردة عليهم في ليلة شاتية وإرسال الملائكة وقذف الرعب في قلوبهم حتى كان البعض يلتزق بالبعض من خوف الخيل في جوف الليل ، والحكاية مشهورة .
وقوله : ( وكان الله بما تعملون بصيرا ) إشارة إلى أن الله علم التجاءكم إليه ورجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداء ، وهذا تقرير لوجوب الخوف وعدم جواز الخوف من غير الله فإن قوله : ( فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ) أي الله يقضي حاجتكم وأنتم لا ترون ، فإن كان لا يظهر لكم وجه الأمن فلا تلتفتوا إلى عدم ظهوره لكم لأنكم لا ترون الأشياء فلا تخافون غير الله ( والله بصير بما تعملون ) فلا تقولوا بأنا نفعل شيئا وهو لا يبصره ( إنه بكل شيء بصير ) وقوله : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ) بيان لشدة الأمر وغاية الخوف ، وقيل : ( من فوقكم ) أي من جانب الشرق ، ( ومن أسفل منكم ) من جانب الغرب وهم أهل مكة ( وإذ زاغت الأبصار ) أي مالت عن سننها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته ، ( وبلغت القلوب الحناجر ) كناية عن غاية الشدة ، وذلك لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص فيلتصق بالحنجرة ، وقد يفضي إلى أن يسد مجرى النفس لا يقدر المرء يتنفس ويموت من الخوف ومثله قوله تعالى : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) [ الواقعة : 83 ] .
وقوله : ( وتظنون بالله الظنونا ) الألف واللام يمكن أن يكونا بمعنى الاستغراق مبالغة يعني تظنون كل ظن ; لأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئا ويمكن أن يكون المراد ظنونهم المعهودة ; لأن كما قال عليه السلام : “ المعهود من المؤمن ظن الخير بالله ظنوا بالله خيرا “ ومن الكافر الظن السوء كما قال تعالى : ( ذلك ظن الذين كفروا ) [ ص : 27 ] ، وقوله : ( إن يتبعون إلا الظن ) [ يونس : 66 ] فإن قال قائل : المصدر لا يجمع ، فما الفائدة في جمع الظنون ؟ فنقول : لا شك في أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدرا كما يقال : ضربته سياطا وأدبته مرارا . فكأنه قال : ظننتم ظنا بعد ظن أي ما ثبتم على ظن ، فالفائدة هي أن الله تعالى لو قال : تظنون ظنا ، جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال ظنونا ، تبين أن فيهم من كان ظنه كاذبا لأن الظنون قد تكذب كلها وقد يكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد ، مثاله : إذا رأى جمع من بعيد جسما وظن بعضهم أنه زيد وآخرون أنه عمرو وقال ثالث : إنه بكر ، ثم ظهر لهم الحق قد يكون الكل مخطئين والمرئي شجر أو حجر . وقد يكون أحدهم مصيبا ولا يمكن أن يكونوا كلهم مصيبين فقوله : ( الظنونا ) أفاد أن فيهم من أخطأ الظن ، ولو قال : تظنون بالله ظنا ما كان يفيد هذا .