الأول : أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة ، والإحسان إلى المعروف أولى من الإحسان إلى الغير ، وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال : ( وعظ ولم يتعظ أفلا تعقلون ) .
الثاني : أن من صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية ؛ لأن الناس يقولون : إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات ، وإلا لما أقدم على المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين ، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء ، فلهذا قال : ( وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ أفلا تعقلون ) .
الثالث : أن ، ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرا في القلوب فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء ، ولهذا قال من وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب علي رضي الله عنه : قصم ظهري رجلان : عالم متهتك وجاهل متنسك . وبقي ههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم : واحتجوا بالآية والمعقول ، أما الآية فقوله : ( ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) ولا شك أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم ، وقال أيضا : ( لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ الصف : 3 ] ، وأما المعقول فهو أنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن ينكر عليها في أثناء الزنا على كشفها عن وجهها ، ومعلوم أن ذلك مستنكر . والجواب : أن : أحدهما ترك المعصية ، والثاني : منع الغير عن فعل المعصية والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر ، أما قوله : ( المكلف مأمور بشيئين أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) فهو نهي عن الجمع بينهما ، والنهي عن الجمع بين الشيئين يصح حمله على وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد هو النهي عن نسيان النفس مطلقا .
والآخر : أن يكون المراد هو النهي عن ترغيب الناس في [ ص: 45 ] البر حال كونه ناسيا للنفس ، وعندنا المراد من الآية هو الأول لا الثاني ، وعلى هذا التقدير يسقط قول هذا الخصم ، وأما المعقول الذي ذكروه فيلزمهم .
المسألة الثانية : احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن غير مخلوق لله عز وجل فقالوا قوله تعالى : ( فعل العبد أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) إنما يصح ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم ، فأما إذا كان مخلوقا فيهم على سبيل الاضطرار فإن ذلك لا يحسن ، إذ لا يجوز أن يقال للأسود : لم لا تبيض ؟ لما كان السواد مخلوقا فيه . والجواب : أن قدرته لما صلحت للضدين فإن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق ، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه . وإن حصل فإن كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه ، وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحا والآخر مرجوحا والمرجوح ممتنع الوقوع ؛ لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع ، وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر ، وحينئذ يعود عليكم كل ما أوردتموه علينا . ثم الجواب الحقيقي عن الكل : أنه " لا يسأل عما يفعل " .
المسألة الثالثة : ( أ ) عن أنس رضي الله عنه : قال عليه الصلاة والسلام : " جبريل من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم " ( ب ) وقال عليه الصلاة والسلام : " مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاهم بمقاريض من النار ، فقلت : يا أخي يا . فقيل : من هو يا رسول الله ؟ قال : " عالم لا ينتفع بعلمه في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه " ( ج ) وقال عليه الصلاة والسلام : " إن كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه يعلم الناس الخير ولا يعمل به " ( د ) وعن مثل الذي : يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من النار فيقولون : لم دخلتم النار ونحن إنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم ؟ فقالوا : إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله . كما قيل : من وعظ بقوله ضاع كلامه ، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه . وقال الشاعر : الشعبي
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم
قيل : عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل ، وأما من وعظ واتعظ فمحله عند الله عظيم .
روي أن مات وكان واعظا زاهدا ، فرؤي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي وأول ما سألني منكر ونكير فقالا : من ربك ؟ فقلت : أما تستحيان من شيخ دعا إلى الله تعالى كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك ؟ وقيل يزيد بن هارون للشبلي عند النزع : قل لا إله إلا الله . فقال :
إن بيتا أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج
[ ص: 46 ] ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون )