قوله تعالى : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ) اعلم أن فيه مسائل :
( المسألة الأولى ) : اتفق المفسرون على أن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم إسرائيل هو ويقولون : إن معنى إسرائيل عبد الله ؛ لأن " إسرا " في لغتهم هو العبد و " إيل " هو الله ، وكذلك جبريل وهو عبد الله وميكائيل عبد الله . قال القفال : قيل إن " إسرا " بالعبرانية في معنى إنسان ، فكأنه قيل : رجل الله فقوله : ( يابني إسرائيل ) خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب عليه السلام في أيام محمد صلى الله عليه وسلم .
( المسألة الثانية ) : حد النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، ومنهم من يقول : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، قالوا : وإنما زدنا هذا ؛ لأن النعمة يستحق بها الشكر ، وإذا كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر ، والحق أن هذا القيد غير معتبر ؛ لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا ؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم والعقاب ، فأي امتناع في اجتماعهما ؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر بإنعامه والذم بمعصيته ، فلم لا يجوز ههنا أن يكون الأمر كذلك ؟ ولنرجع إلى تفسير الحد فنقول : أما قولنا : المنفعة ؛ فلأن المضرة المحضة لا يجوز أن تكون نعمة ، وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان ؛ فلأنه لو كان نفعا وقصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها ، أو أراد استدراجه إلى ضرر واختداعه كمن أطعم خبيصا مسموما ليهلكه لم يكن ذلك نعمة ، فأما إذا كانت المنفعة مفعولة على قصد الإحسان إلى الغير كانت نعمة . إذا عرفت حد النعمة فلنفرع عليه فروعا :
الفرع الأول : اعلم أن كل ما يصل إلينا آناء الليل والنهار في الدنيا والآخرة من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ] ثم إن : النعمة على ثلاثة أوجه
أحدها : نعمة تفرد الله بها نحو أن خلق ورزق .
وثانيها : نعمة وصلت إلينا من جهة غيره بأن خلقها وخلق المنعم ومكنه من الإنعام ، وخلق فيه قدرة الإنعام وداعيته ، ووفقه عليه وهداه إليه ، فهذه النعمة في الحقيقة أيضا من الله تعالى ، إلا أنه تعالى لما أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكورا ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ، ولهذا قال : ( أن اشكر لي ولوالديك ) [ لقمان : 14 ] فبدأ بنفسه ، وقال عليه السلام : " " . لا يشكر الله من لا يشكر الناس
وثالثها : نعمة وصلت إلينا من الله تعالى بواسطة طاعاتنا ، وهي أيضا من الله تعالى ؛ لأنه لولا أنه سبحانه وتعالى وفقنا على الطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار وإلا لما وصلنا إلى شيء منها ، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم من الله تعالى على ما قال سبحانه وتعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ] .
[ ص: 29 ] الفرع الثاني : أن مما لا يمكن عدها وحصرها على ما قال : ( نعم الله تعالى على عبيده وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ النحل : 18 ] وإنما لا يمكن ذلك ؛ لأن كل ما أودع فينا من المنافع واللذات التي ننتفع بها والجوارح والأعضاء التي نستعملها في جلب المنافع ودفع المضار وما خلق الله تعالى في العالم مما يلتذ به ويستدل على وجود الصانع ، وما وجد في العالم مما يحصل الانزجار برؤيته عن المعاصي مما لا يحصى عدده ، وكل ذلك منافع ؛ لأن المنفعة هي اللذة أو ما يكون وسيلة إلى اللذة ، وجميع ما خلق الله تعالى كذلك ؛ لأن كل ما يلتذ به نعمة ، وكل ما يلتذ به وهو وسيلة إلى دفع الضرر فهو كذلك ، والذي لا يكون جالبا للنفع الحاضر ولا دافعا للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدل به على الصانع الحكيم ، فيقع ذلك وسيلة إلى معرفته وطاعته وهما وسيلتان إلى اللذات الأبدية ، فثبت أن جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد ، ولما كانت العقول قاصرة عن تعديد ما في أقل الأشياء من المنافع والحكم فكيف يمكن الإحاطة بكل ما في العالم من المنافع والحكم ، فصح بهذا معنى قوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ النحل : 18 ] فإن قيل : فإذا كانت النعم غير متناهية وما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكرها في قوله : ( اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) والجواب أنها غير متناهية بحسب الأنواع والأشخاص إلا أنها متناهية بحسب الأجناس ، وذلك يكفي في التذكير الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم . واعلم أنه لما ثبت أن استحقاق الحمد والثناء والطاعة لا يتحقق إلا على إيصال النعمة ثبت أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لحمد الحامدين ؛ ولهذا قال في ذم الأصنام : ( هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون ) [ الشعراء : 73 ] وقال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ) [ الفرقان : 55 ] وقال : ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ) [ يونس : 35 ] .
الفرع الثالث : أن هو أن خلقهم أحياء والدليل عليه قوله تعالى : ( أول ما أنعم الله به على عبيده كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) [ البقرة 28 ] ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [ البقرة : 29 ] إلى آخر الآية ، وهذا صريح في أن أصل النعم الحياة ؛ لأنه تعالى أول ما ذكر من النعم فإنما ذكر الحياة ثم إنه تعالى ذكر عقيبها سائر النعم ، وأنه تعالى إنما ذكر المؤمنين ليبين أن المقصود من حياة الدنيا حياة الآخرة والثواب . وبين أن جميع ما خلق قسمان منتفع ومنتفع به ، هذا قول المعتزلة . وقال أهل السنة : إنه سبحانه كما خلق المنافع خلق المضار ، ولا اعتراض لأحد عليه ، ولهذا سمى نفسه " النافع الضار " ولا يسأل عما يفعل .
الفرع الرابع : قالت المعتزلة : إن الله تعالى قد أنعم على المكلفين بنعمة الدنيا ونعمة الدين ، وسوى بين الجميع في النعم الدينية والدنيوية ، أما في النعم الدينية فلأن كل ما كان في المقدور من الألطاف فقد فعل بهم ، والذي لم يفعله فغير داخل في القدرة ، إذ لو قدر على لطف لم يفعله بالمكلف لبقي عذر المكلف ، وأما في الدنيا فعلى قول البغداديين خاصة ؛ لأن عندهم يجب رعاية الأصلح في الدنيا وعند البصريين لا يجب . وقال أهل السنة : إن الله تعالى خلق الكافر للنار ولعذاب الآخرة ، ثم اختلفوا في أنه ؟ فمنهم من قال : هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم يكن ذلك نعمة على الكافر في الدنيا ، فإن من جعل السم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما [ ص: 30 ] كان ذلك سبيلا إلى الضرر العظيم ، ولهذا قال تعالى : ( هل لله نعمة على الكافر في الدنيا ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) [ آل عمران : 178 ] ومنهم من قال : إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدين فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا ، وهو قول رحمه الله ، وهذا القول أصوب ويدل عليه وجوه : القاضي أبي بكر الباقلاني
أحدها : قوله تعالى : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) [ البقرة : 22 ] فنبه على أنه يجب على الكل طاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق .
ثانيها : قوله تعالى : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ) إلى آخره ، وذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شيء من النعم لما صح ذلك .
وثالثها : قوله : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ) [ البقرة : 122 ] وهذا نص صريح في أن الله تعالى أنعم على الكافر ، إذ المخاطب بذلك هم أهل الكتاب وكانوا من الكفار ، وكذا قوله : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي ) إلى قوله : ( وإذ أنجيناكم ) [ الأعراف : 141 ] وقوله : ( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ) [ البقرة : 53 ] . وكل ذلك عد للنعم على العبيد .
ورابعها : قوله : ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ) [ الأنعام : 6 ] .
وخامسها : قوله : ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه ) [ الأنعام : 63 ] إلى قوله : ( ثم أنتم تشركون ) [ الأنعام : 64 ] .
وسادسها : قوله : ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ) [ الأعراف : 10 ] ، وقال في قصة إبليس : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 17 ] ، ولو لم يكن عليهم من الله نعمة لما كان لهذا القول فائدة .
وسابعها : قوله : ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض ) [ الأعراف : 74 ] الآية ، وقال حاكيا عن شعيب : ( واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ) [ الأعراف : 86 ] وقال حاكيا عن موسى : ( قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين ) [ الأعراف : 140 ] .
وثامنها : قوله : ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم ) [ الأنفال : 53 ] وهذا صريح .
وتاسعها : قوله : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) [ يونس : 5 ] .
وعاشرها : قوله تعالى : ( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ) [يونس : 21] .
الحادي عشر : قوله : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها ) [ يونس : 22 ] إلى قوله : ( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) [ يونس : 23 ] .
[ ص: 31 ] الثاني عشر : قوله : ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا ) [ الفرقان : 47 ] . وقوله : ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ) [ يونس : 67 ] .
الثالث عشر : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) [ إبراهيم : 28 ] .
الرابع عشر : ( الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ) [ إبراهيم : 32 ] .
الخامس عشر : قوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) [ إبراهيم : 34 ] وهذا صريح في إثبات النعمة في حق الكفار .
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى العبارة ، وذلك لأنه لا نزاع في أن هذه الأشياء أعني الحياة والعقل والسمع والبصر وأنواع الرزق والمنافع من الله تعالى ؛ إنما الخلاف في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المضار الأبدية هل يطلق في العرف عليها اسم النعمة أم لا ؟ ومعلوم أن ذلك نزاع في مجرد عبارة ، وأما الذي يدل على أن ما لا يلتذ به المكلف فهو تعالى إنما خلقه لينتفع به في الاستدلال على الصانع وعلى لطفه وإحسانه فأمور :
أحدها : قوله تعالى في سورة ( أتى أمر الله) : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ) [ النحل : 2 ] فبين تعالى أنه إنما بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولأجل الدعوة إلى وحدانيته والإيمان بتوحيده وعدله ، ثم إنه تعالى قال : ( خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ) [ النحل : 3 ] ( خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) [ النحل : 4 ] فبين أن حدوث العبد مع ما فيه من الكفر من أعظم الدلائل على وجود الصانع ، وهو انقلابه من حال إلى حال ، من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن ينتهي من أخس أحواله وهو كونه نطفة إلى أشرف أحواله وهو كونه خصيما مبينا ، ثم ذكر بعد ذلك وجوه إنعامه فقال : ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ) [ النحل : 5 ] إلى قوله : ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ) [ النحل : 10 ] بين بذلك الرد على الدهرية وأصحاب الطبائع ؛ لأنه تعالى بين أن الماء واحد والتراب واحد ومع ذلك اختلفت الألوان والطعوم والروائح ، ثم قال : ( وسخر لكم الليل والنهار ) [ النحل : 12 ] بين به الرد على المنجمين وأصحاب الأفلاك حيث استدل بحركاتها وبكونها مسخرة على طريقة واحدة على حدوثها ، فأثبت سبحانه وتعالى بهذه الآيات أن كل ما في العالم مخلوق لأجل المكلفين ؛ لأن كل ما في العالم مما يغاير ذات المكلف ليس يخلو من أن يلتذ به المكلف ويستروح إليه فيحصل له به سرور أو يتحمل عنه كلفة أو يحصل له به اعتبار ، نحو الأجسام المؤذية كالحيات والعقارب فيتذكر بالنظر إليها أنواع العقاب في الآخرة فيحترز منها ، ويستدل بها على المنعم الأعظم ، فثبت أنه لا يخرج شيء من مخلوقاته عن هذه المنافع ، ثم إنه سبحانه وتعالى نبه على عظم إنعامه بهذه الأشياء في آخر هذه الآيات فقال : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ النحل : 18 ] .
وثانيها : قوله تعالى : ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت [ ص: 32 ] بأنعم الله ) [ النحل : 112 ] فنبه بذلك على أن كون النعمة واصلة إليهم يوجب أن يكون كفرانها سببا للتبديل ، وثالثها : قوله في قصة قارون : ( وأحسن كما أحسن الله إليك ) [ القصص : 77 ] وقال : ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) [ لقمان : 20 ] وقال : ( أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ) [ الواقعة : 58 ] وقال : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن : 30 ] على سبيل التكرير ، وكل ما في هذه السورة فهو من النعم ، إما في الدين أو في الدنيا ، فهذا ما يتعلق بهذا الباب .