المسألة الثالثة : من الناس من تمسك أنبئوني بأسماء هؤلاء ) على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف ؛ لأنه تعالى إنما استنبأهم مع علمه تعالى بعجزهم على سبيل التبكيت ، ويدل على ذلك قوله تعالى : ( بقوله تعالى : ( إن كنتم صادقين ) .
[ ص: 163 ] المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن آدم عليه السلام من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت ، والأقرب أنه كان مبعوثا إلى حواء ، ولا يبعد أيضا أن يكون مبعوثا إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة ؛ لأن جميعهم وإن كانوا رسلا فقد يجوز الإرسال إلى الرسول كبعثة ما ظهر من إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام ، واحتجوا عليه بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة ، فوجب أن يكون معجزا ، وإذا ثبت كونه معجزا ثبت كونه رسولا في ذلك الوقت ، ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة ؛ لأن حصول العلم باللغة لمن علمه تعالى ، وعدم حصوله لمن لم يعلمه الله ليس بناقض للعادة ، وأيضا فإما أن يقال : الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو ما علموا ذلك ، فإن علموا ذلك فقد قدروا على أن يذكروا أسماء تلك المسميات ، فحينئذ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة ، وإن لم يعلموا ذلك فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ اسما لكل واحد من تلك المسميات ؟
واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين :
الأول : ربما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات ، وكان كل صنف جاهلا بلغة الصنف الآخر ، ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا ، وإن آدم عليه السلام عد عليهم جميع تلك اللغات بأسرها ، فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة خاصة ، فعرفوا بهذا الطريق صدقه إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها ، فكان ذلك معجزا .
الثاني : لا يمتنع أن يقال : إنه تعالى عرفهم قبل أن يسمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء ما استدلوا به على صدق آدم ، فلما سمعوا منه عليه السلام تلك الأسماء عرفوا صدقه فيها ، فعرفوا كونه معجزا ، سلمنا أنه ظهر عليه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات ، أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان ، وحينئذ يصير الكلام في هذه المسألة فرعا على الكلام فيهما ، واحتج من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبيا في ذلك الوقت بوجوه :
أحدها : أنه لو كان نبيا في ذلك الزمان لكان قد صدرت المعصية عنه بعد النبوة ، وذلك غير جائز ، فوجب أن لا يكون نبيا في ذلك الزمان ، أما الملازمة فلأن صدور الزلة عنه كان بعد هذه الواقعة بالاتفاق ، وتلك الزلة من باب الكبائر على ما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى ، والإقدام على الكبيرة يوجب استحقاق الطرد والتحقير واللعن ، وكل ذلك على الأنبياء غير جائز فيجب أن يقال : وقعت تلك الواقعة قبل النبوة .
وثانيها : لو كان رسولا في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثا إلى أحد أو لا يكون ، فإن كان مبعوثا إلى أحد ، فإما أن يكون مبعوثا إلى الملائكة أو الإنس أو الجن ، والأول باطل ؛ لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ، ولا يجوز جعل الأدون رسولا إلى الأشرف ؛ لأن الرسول [قائد] والأمة تبع ، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل ، وأيضا فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ؛ ولهذا قال تعالى : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) [الأنعام : 9] ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى البشر ؛ لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حواء ، وإن حواء إنما عرفت التكليف لا بواسطة آدم ؛ لقوله تعالى : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) [البقرة : 35] شافههما بهذا التكليف ، وما جعل آدم واسطة ، ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى الجن ؛ لأنه ما كان في السماء أحد من الجن ، ولا جائز أيضا أن يكون مبعوثا إلى أحد ؛ لأن المقصود من جعله رسولا التبليغ فحيث لا مبلغ لم يكن [ ص: 164 ] في جعله رسولا فائدة ، وهذا الوجه ليس في غاية القوة .
وثالثها : قوله تعالى : ( ثم اجتباه ربه ) [طه : 122] فهذه الآية دلت على أنه تعالى إنما اجتباه بعد الزلة فوجب أن يقال : إنه قبل الزلة ما كان مجتبى ، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب أن لا يكون رسولا ؛ لأن الرسالة والاجتباء متلازمان ؛ لأن الاجتباء لا معنى له إلا التخصيص بأنواع التشريفات ، وكل من جعله الله رسولا فقد خصه بذلك ؛ لقوله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [الأنعام : 124] .