الفصل الخامس : في ، ذكر العلماء فيه وجهين : حقيقة شرح الصدر
الأول : أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة ، أما الرغبة فهي أن يكون متعلق القلب بالأهل والولد وبتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم ، وأما الرهبة فهي أن يكون خائفا من الأعداء والمنازعين فإذا شرح الله صدره صغر كل ما يتعلق بالدنيا في عين همته ، فيصير كالذباب والبق والبعوض لا تدعوه رغبة إليها ولا تمنعه رهبة عنها ، فيصير الكل عنده كالعدم وحينئذ يقبل القلب بالكلية نحو طلب مرضاة الله تعالى ، فإن القلب في المثال كينبوع من الماء ، والقوة البشرية لضعفها كالينبوع الصغير ، فإذا فرقت ماء العين [ ص: 39 ] الواحدة على الجداول الكثيرة ضعفت الكل ، فأما إذا انصب الكل في موضع واحد قوي ، فسأل موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره بأن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها حتى يصير قلبه نفورا عنها فإذا حصلت النفرة توجه إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات بالكلية .
الثاني : أن موسى عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة منها ضبط الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى ، ومنها إصلاح العالم الجسداني فكأنه صار مكلفا بتدبير العالمين ، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر ، ألا ترى أن المشتغل بالإبصار يصير ممنوعا عن السماع والمشتغل بالسماع يصير ممنوعا عن الإبصار والخيال ، فهذه القوى متجاذبة متنازعة وأن موسى عليه السلام كان محتاجا إلى الكل ، ومن استأنس بجمال الحق استوحش من جمال الخلق فسأل موسى ربه أن يشرح صدره بأن يفيض عليه كمالا من القوة لتكون قوته وافية بضبط العالمين فهذا هو المراد من شرح الصدر . وذكر العلماء لهذا المعنى أمثلة :
المثال الأول : اعلم أن ، والروح كالملك ، والعقل كالوزير ، والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة ، والغضب كالاسفهسالار الذي يشتغل بالضرب والتأديب أبدا ، والحواس كالجواسيس وسائر القوى كالخدم والعملة والصناع ، ثم إن الشيطان خصم لهذه البلدة ولهذه القلعة ولهذا الملك ، فالشيطان هو الملك والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده ، فأول ما أخرج الروح وزيره وهو العقل فكذا الشيطان أخرج في مقابلته الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى يدعو إلى الشيطان ، ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الشيطان في مقابلة الفطنة الشهوة ، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا ، والشهوة تحركك إلى لذات الدنيا ، ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتقوى الفطنة بالفكرة ، فتقف على الحاضر والغائب من المعائب على ما قال عليه السلام : " البدن بالكلية كالمملكة ، والصدر كالقلعة ، والفؤاد كالقصر ، والقلب كالتخت تفكر ساعة خير من عبادة سنة " فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ، ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحا والقبيح حسنا ، والحلم يوقف العقل على قبح الدنيا فأخرج الشيطان في مقابلته العجلة والسرعة ; فلهذا قال عليه السلام : " " ولهذا خلق السماوات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصنفين ، وقلبك وصدرك هو القلعة . ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقا وهو الزهد في الدنيا وعدم الرغبة فيها وله سور وهو الرغبة في الآخرة ومحبة الله تعالى ، فإن كان الخندق عظيما والسور قويا عجز عسكر الشيطان عن تخريبه فرجعوا وراءهم وتركوا القلعة كما كانت ، وإن كان خندق الزهد غير عميق وسور حب الآخرة غير قوي قدر الخصم على استفتاح قلعة الصدر فيدخلها ويبيت فيها جنوده من الهوى والعجب والكبر والبخل وسوء الظن بالله تعالى والنميمة والغيبة فينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه ، فإذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح الأمر وانشرح الصدر وخرجت ظلمات الشيطان ودخلت أنوار هداية رب العالمين وذلك هو المراد بقوله : ( ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه رب اشرح لي صدري ) .
المثال الثاني : اعلم أن معدن النور هو القلب ، واشتغال الإنسان بالزوجة والولد ، والرغبة في مصاحبة الناس ، والخوف من الأعداء هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر فإذا قوى الله [ ص: 40 ] بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه ولا شك في أنهم من حيث هم عدم محض على ما قال تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] فلا يزال العبد يتأمل فيما سوى الله تعالى إلى أن يشاهد أنهم عدم محض فعند ذلك يزول الحجاب بين قلبه وبين أنوار جلال الله تعالى ، وإذا زال الحجاب امتلأ القلب من النور فذلك هو انشراح الصدر .