قوله تعالى : ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ) .
اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى - عليه السلام - بقوله : ( فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ) أتبعه بقوله : ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله ( لذكري ) أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك : ( إن الساعة آتية ) لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ثم قال : ( أكاد أخفيها ) وفيه سؤالان :
السؤال الأول : هو أن ( كاد ) نفيه إثبات وإثباته نفي بدليل قوله : ( وما كادوا يفعلون ) [ البقرة : 71 ] أي وفعلوا ذلك فقوله : ( أكاد أخفيها ) يقتضي أنه ما أخفاها وذلك باطل لوجهين :
أحدهما : قوله : ( إن الله عنده علم الساعة ) [ لقمان : 34 ] .
والثاني : أن قوله : ( لتجزى كل نفس بما تسعى ) إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار . والجواب من وجوه :
أحدها : أن ( كاد ) موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات فقوله : ( أكاد أخفيها ) معناه قرب الأمر فيه من الإخفاء وأما أنه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فذلك غير مستفاد من اللفظ بل من قرينة قوله : ( لتجزى كل نفس بما تسعى ) فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار .
وثانيها : أن كاد من الله واجب فمعنى قوله : ( أكاد أخفيها ) أي أنا أخفيها عن الخلق كقوله : ( عسى أن يكون قريبا ) [ الإسراء : 51 ] أي هو قريب قاله الحسن .
وثالثها : قال أبو مسلم : " أكاد " بمعنى أريد وهو كقوله : ( كذلك كدنا ليوسف ) [ يوسف : 76 ] ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي ولا أريد أن أفعله .
ورابعها : معناه : ( أكاد أخفيها ) من نفسي وقيل إنها كذلك في مصحف أبي وفي حرف ابن مسعود : " أكاد أخفيها من نفسي " فكيف أعلنها لكم قال القاضي هذا بعيد ؛ لأن الإخفاء إنما يصح فيمن يصلح له الإظهار وذلك مستحيل على الله تعالى ؛ لأن كل معلوم معلوم له فالإظهار والإسرار منه مستحيل ، ويمكن أن يجاب عنه بأن ذلك واقع على التقدير يعني لو صح مني إخفاؤه على نفسي لأخفيته عني ، والإخفاء وإن كان محالا في نفسه إلا أنه لا يمتنع أن يذكر ذلك على هذا التقدير مبالغة في عدم [ ص: 20 ] إطلاع الغير عليه ، قال قطرب : هذا على عادة العرب في مخاطبة بعضهم بعضا يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمته حتى من نفسي فالله تعالى بالغ في فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله . إخفاء الساعة
وخامسها : " أكاد " صلة في الكلام والمعنى : "إن الساعة آتية أخفيها " ، قال زيد الخيل :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس
والمعنى فما يتنفس قرنه .
وسادسها : قال أبو الفتح الموصلي " أكاد أخفيها " تأويله أكاد أظهرها وتلخيص هذا اللفظ أكاد أزيل عنها إخفاءها ؛ لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب والنفي كقولك أعجمت الكتاب وأشكلته أي أزلت عجمته وإشكاله وأشكيته أي أزلت شكواه .
وسابعها : قرئ أخفيها بفتح الألف أي أكاد أظهرها من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهاره كقوله : ( اقتربت الساعة ) [ القمر : 1 ] قال امرؤ القيس :
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تمنعوا الحرب لا نقعد
أي لا نظهره . قال الزجاج : وهذه القراءة أبين ؛ لأن معنى أكاد أظهرها يفيد أنه قد أخفاها .
وثامنها : أراد أن الساعة آتية أكاد وانقطع الكلام ثم قال أخفيها ثم رجع الكلام الأول إلى أن الأولى الإخفاء : ( لتجزى كل نفس بما تسعى ) وهذا الوجه بعيد والله أعلم .
السؤال الثاني : ما ؟ الجواب : لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية ، وإنه لا يجوز . أما قوله : ( الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت لتجزى كل نفس بما تسعى ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي ، والمحسن عن المسيء ، وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ) [ ص : 28 ] ( أم نجعل المتقين كالفجار ) [ ص : 28 ] .
المسألة الثانية : احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن ؛ لأن الباء للإلصاق فقوله : ( الثواب مستحق على العمل بما تسعى ) يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي .
المسألة الثالثة : احتجوا بها على أن ؛ وذلك لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ولو كان الكل مخلوقا لله تعالى ، لم يكن للعبد سعي البتة . فعل العبد غير مخلوق لله تعالى