المسألة الثانية : في ذكر سائر الأقوال المقولة في نفس الروح المذكورة في هذه الآية ، اعلم أن الناس ذكروا أقوالا أخرى سوى ما تقدم ذكره :
فالقول الأول : أن المراد من هذا الروح هو القرآن قالوا وذلك لأن الله تعالى سمى القرآن في كثير من الآيات روحا واللائق بالروح المسئول عنه في هذا الموضع ليس إلا القرآن فلا بد من تقرير مقامين :
المقام الأول : يدل عليه قوله تعالى : ( تسمية الله القرآن بالروح وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) ( الشورى : 52 ) وقوله : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره ) ( النحل : 2 ) وأيضا السبب في تسمية القرآن بالروح أن بالقرآن تحصل حياة الأرواح والعقول ; لأن به تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته ومعرفة كتبه ورسله والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف ، وتمام تقرير هذا الموضع ذكرناه في تفسير قوله : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره ) ( النحل : 2 ) ، وأما بيان المقام الثاني وهو أن الروح اللائق بهذا الموضع هو القرآن لأنه تقدمه قوله : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) ( الإسراء : 82 ) والذي تأخر عنه قوله : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) ( الإسراء : 86 ) إلى قوله : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ( الإسراء : 88 ) فلما كان ما قبل هذه الآية في وصف القرآن وما بعدها كذلك وجب أيضا أن يكون المراد من هذا الروح القرآن حتى تكون آيات القرآن كلها متناسبة متناسقة ، وذلك لأن القوم استعظموا أمر القرآن فسألوا أنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله فقال : ( قل الروح من أمر ربي ) أي القرآن ظهر بأمر ربي ، وليس من جنس كلام البشر ، القول الثاني : أن الروح المسئول عنه في هذه الآية ملك من ملائكة السماوات وهو أعظمهم قدرا وقوة وهو المراد من قوله تعالى : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) ( النبأ : 38 ) ونقلوا عن - رضي الله عنه - أنه قال : هو ملك له سبعون ألف وجه ، لكل وجه سبعون ألف وجه ، لكل وجه سبعون ألف لسان ، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق [ ص: 33 ] الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة ، قالوا : ولم يخلق الله تعالى خلقا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن يبتلع السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهن بلقمة واحدة لفعل ، ولقائل أن يقول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه : علي بن أبي طالب
الأول : أن هذا التفصيل لما عرفه علي ، فالنبي أولى أن يكون قد عرفه فلم لم يخبرهم به ، وأيضا أن عليا ما كان ينزل عليه الوحي ، فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الشرح والبيان لعلي ولم يذكره لغيره .
الثاني : أن ذلك الملك إن كان حيوانا واحدا وعاقلا واحدا لم يكن في تكثير تلك اللغات فائدة وإن كان المتكلم بكل واحدة من تلك اللغات حيوانا آخر لم يكن ذلك ملكا واحدا بل يكون ذلك مجموع ملائكة .
والثالث : أن هذا شيء مجهول الوجود فكيف يسأل عنه ، أما الروح الذي هو سبب الحياة فهو شيء تتوفر دواعي العقلاء على معرفته فصرف هذا السؤال إليه أولى .
والقول الرابع : وهو قول الحسن وقتادة أن هذا الروح جبريل والدليل عليه أنه تعالى سمى جبريل بالروح في قوله : ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) ( الشعراء : 193 - 194) وفي قوله : ( فأرسلنا إليها روحنا ) ( مريم : 17 ) ويؤكد هذا أنه تعالى قال : ( قل الروح من أمر ربي ) ( في جبريل ) وقال ( حكاية عن ) جبريل : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) ( مريم : 64 ) فسألوا الرسول كيف جبريل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي إليه .
والقول الخامس : قال : الروح خلق ليسوا من الملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورءوس ، وقال مجاهد أبو صالح : يشبهون الناس وليسوا بالناس ، ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئا يمكن التمسك به في إثبات هذا القول وأيضا فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه ، فحاصل ما ذكرناه في المذكور في هذه الآية هذه الأقوال الخمسة والله أعلم بالصواب . تفسير الروح