وقالت الجبرية : لقد سمعنا كلامكم واعترفنا لكم بجودة الإيراد وحسن الترتيب وقوة الكلام ، ولكن ماذا نعمل ولكم أعداء ثلاثة يشوشون عليكم هذه الوجوه الحسنة والدلائل اللطيفة ؟
أحدها : مسألة الداعي وهي أن القادر على العلم والجهل والإهداء والإضلال لم فعل أحدهما دون الآخر ؟
[ ص: 132 ]
وثانيها : مسألة العلم ، على ما سبق تقريرها في قوله تعالى : ( ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ] وما رأينا لكم في دفع هذين الكلامين كلاما محيلا قويا ونحن لا شك نعلم أنه لا يخفى عليكم مع ما معكم من الذكاء الضعف عن تلك الأجوبة التي تكلموا بها ، فكما أنصفنا واعترفنا لكم بحسن الكلام الذي ذكرتموه فأنصفوا أيضا واعترفوا بأنه لا وجه لكم عن هذين الوجهين ، فإن التعامي والتغافل لا يليق بالعقلاء .
وثالثها : أن فعل العبد لو كان بإيجاده لما حصل إلا الذي قصد إيجاده ، لكن أحدا لا يريد إلا تحصيل العلم والاهتداء ، ويحترز كل الاحتراز عن الجهل والضلال ، فكيف يحصل الجهل والإضلال للعبد مع أنه ما قصد إلا تحصيل العلم والاهتداء ؟ فإن قيل : إنه اشتبه عليه الكفر بالإيمان والعلم بالجهل فظن في الجهل أنه علم ، فقصد إيقاعه ، فلذلك حصل له الجهل ، قلنا : ظنه في الجهل أنه علم ظن خطأ ، فإن كان اختاره أولا فقد اختار الجهل والخطأ لنفسه ، وذلك غير ممكن ، وإن قلنا : إنه اشتبه عليه ذلك بسبب ظن آخر متقدم عليه ، لزم أن يكون قبل كل ظن ظن لا إلى نهاية ، وهو محال .
ورابعها : أن التصورات غير كسبية والتصديقات البديهية غير كسبية والتصديقات بأسرها غير كسبية ، فهذه مقدمات ثلاثة :
المقدمة الأولى : في بيان أن التصورات غير كسبية ، وذلك لأن من يحاول اكتسابها : فإما أن يكون متصورا لها ، أو لا يكون متصورا لها . فإن كان متصورا لها استحال أن يطلب تحصيل تصورها لأن تحصيل الحاصل محال ، وإن لم يكن متصورا لها كان ذهنه غافلا عنها ، والغافل عن الشيء يستحيل أن يكون طالبه .
المقدمة الثانية : في بيان أن التصديقات البديهية غير كسبية لأن حصول طرفي التصديق إما أن يكون كافيا في جزم الذهن بذلك التصديق أو لا يكون كافيا ، فإن كان الأول كان ذلك التصديق دائرا مع ذينك التصورين على سبيل الوجوب نفيا وإثباتا ، وما كان كذلك لم يكن مقدورا ، وإن كان الثاني لم يكن التصديق بديهيا بل متوقفا فيه .
المقدمة الثالثة : في بيان أن التصديقات بأسرها غير كسبية ، وذلك لأن هذه النظريات إن كانت واجبة اللزوم عن تلك البديهيات التي هي غير مقدورة كانت تلك النظريات أيضا غير مقدورة . وإن لم تكن واجبة اللزوم عن تلك البديهيات لم يمكن الاستدلال بتلك البديهيات على تلك النظريات ، فلم تكن تلك الاعتقادات الحاصلة في تلك النظريات علوما ، بل لا تكون إلا اعتقادا حاصلا للمقلد وليس كلامنا فيه ، فثبت أن كلامكم في معارض بهذه الوجوه العقلية القاطعة التي لا جواب عنها . ولنتكلم الآن فيما ذكروه من التأويلات : عدم إسناد الاهتداء والضلال إلى الله تعالى
أما التأويل الأول فساقط ؛ لأن إنزال هذه المتشابهات هل لها أثر في تحريك الدواعي أو ليس لها أثر في ذلك ؟ فإن كان الأول وجب على قولكم أن يقبح لوجهين ، الأول : أنا قد دللنا في تفسير قوله : ( ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ] على أنه متى حصل الرجحان فلا بد وأن يحصل الوجوب وأنه ليس بين الاستواء وبين الوجوب المانع من النقيض واسطة ، فإذا أثر إنزال هذه المتشابهات في الترجيح وثبت أنه متى حصل الترجيح فقد حصل الوجوب ، فحينئذ جاء الجبر وبطل ما قلتموه .
الثاني : هب أنه لا ينتهي إلى حد الوجوب إلا أن المكلف ينبغي أن يكون مزاح العذر والعلة ، وإنزال هذه المتشابهات عليه مع أن [ ص: 133 ] لها أثرا في ترجيح جانب الضلال على جانب الاهتداء كالعذر للمكلف في عدم الإقدام على الطاعة ، فوجب أن يقبح ذلك من الله تعالى ، وأما إن لم يكن لذلك أثر في إقدامهم على ترجيح جانب الضلال على جانب الاهتداء كانت نسبة هذه المتشابهات إلى ضلالهم كصرير الباب ونعيق الغراب ، فكما أن ضلالهم لا ينسب إلى هذه الأمور الأجنبية كذلك وجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما ، وحينئذ يبطل تأويلهم .
أما التأويل الثاني : وهو التسمية والحكم فهو وإن كان في غاية البعد لكن الإشكال معه باق ؛ لأنه إذا سماه الله بذلك وحكم به عليه فلو لم يأت المكلف به لانقلب خبر الله الصدق كذبا وعلمه جهلا ، وكل ذلك محال ، فكان عدم إتيان المكلف به محالا وإتيانه به واجبا ، وهذا عين الجبر الذي تفرون منه وأنه ملاقيكم لا محالة ، وههنا ينتهي البحث إلى الجوابين المشهورين لهما في هذا المقام وكل عاقل يعلم ببديهة عقله سقوط ذلك .
وأما التأويل الثالث وهو التخلية وترك المنع ، فهذا إنما يسمى إضلالا إذا كان الأولى والأحسن بالوالد أن يمنعه عن ذلك ، فأما إذا كان الولد بحيث لو منعه والده عن ذلك لوقع في مفسدة أعظم من تلك المفسدة الأولى ، لم يقل أحد أنه أفسد ولده وأضله ، وههنا الأمر بخلاف ذلك ؛ لأنه تعالى لو منع المكلف جبرا عن هذه المفسدة لزمت مفسدة أخرى أعظم من الأولى ، فكيف يقال : إنه تعالى أفسد المكلف وأضله ، بمعنى أنه ما منعه عن الضلال مع أنه لو منعه لكانت تلك المفسدة أعظم .
وأما التأويل الرابع فقد اعترض القفال عليه فقال : لا نسلم بأن الضلال جاء بمعنى العذاب ، أما قوله تعالى : ( إن المجرمين في ضلال وسعر ) [ القمر : 47 ] فيمكن أن يكون المراد في ضلال عن الحق في الدنيا ، وفي سعر ؛ أي في عذاب جهنم في الآخرة ، ويكون قوله : ( يوم يسحبون ) [ القمر : 48 ] من صلة سعر ، وأما قوله تعالى : ( إذ الأغلال في أعناقهم ) [ غافر : 71 ] إلى قوله : ( كذلك يضل الله الكافرين ) [ غافر : 74 ] فمعنى قوله : ضلوا عنا ؛ أي بطلوا فلم ننتفع بهم في هذا اليوم الذي كنا نرجو شفاعتهم فيه ، ثم قوله : ( كذلك يضل الله الكافرين ) [ غافر : 74 ] قد يكون على معنى : كذلك يضل الله أعمالهم ، أي يحبطها يوم القيامة ، ويحتمل : كذلك يخذلهم الله تعالى في الدنيا فلا يوفقهم لقبول الحق إذ ألفوا الباطل وأعرضوا عن التدبر ، فإذا خذلهم الله تعالى وأتوا يوم القيامة فقد بطلت أعمالهم التي كانوا يرجون الانتفاع بها في الدنيا .
وأما التأويل الخامس : وهو الإهلاك ، فغير لائق بهذا الموضع لأن قوله تعالى : ( ويهدي به كثيرا ) يمنع من حمل الإضلال على الإهلاك . وأما التأويل السادس : وهو أنه يضله عن طريق الجنة فضعيف ؛ لأنه تعالى قال : ( يضل به ) أي يضل بسبب استماع هذه الآيات ، والإضلال عن طريق الجنة ليس بسبب استماع هذه الآيات بل بسبب إقدامه على القبائح ، فكيف يجوز حمله عليه .
وأما التأويل السابع : وهو أن قوله : ( يضله ) [ الأنعام : 125 ] أي يجده ضالا قد بينا أن إثبات هذه اللغة لا دليل عليه ، وأيضا فلأنه عدى الإضلال بحرف الباء فقال : ( يضل به ) والإضلال بمعنى الوجدان لا يكون معدى بحرف الباء .
[ ص: 134 ] وأما التأويل الثامن : فهو في هذه الآية يوجب تفكيك النظم ؛ لأنه إلى قوله : (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) من كلام الكفار ، ثم قوله : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) كلام الله تعالى من غير فصل بينهما بل مع حرف العطف وهو الواو ، ثم هب أنه ههنا كذلك لكنه في سورة المدثر وهو قوله : ( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) [ المدثر : 31 ] لا شك أنه قول الله تعالى ، فهذا هو الكلام في الإضلال .