( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين )
قوله تعالى : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون )
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية لمنكري النبوة ، فإنهم يشهد على صدقه في ادعاء النبوة فقال تعالى : ( طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله تعالى ملكا من السماء هل ينظرون ) في التصديق بنبوتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك ، ويحتمل أن يقال : إن القوم لما طعنوا في القرآن بأن قالوا : إنه أساطير الأولين ، وذكر الله تعالى أنواع التهديد والوعيد لهم ، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيرا وصدقا وصوابا ، عاد إلى بيان أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن الكفر بسبب البيانات التي ذكرناها ، بل كانوا لا ينزجرون عن تلك الأقوال الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد ، وأتاهم أمر ربك وهو عذاب الاستئصال .
واعلم أن على كلا التقديرين فقد قال تعالى : ( كذلك فعل الذين من قبلهم ) أي : كلام هؤلاء وأفعالهم يشبه كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم .
ثم قال : ( وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) والتقدير : كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم الهلاك المعجل وما ظلمهم الله بذلك ، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بأن كفروا ، وكذبوا الرسول فاستوجبوا ما نزل بهم .
ثم قال : ( فأصابهم سيئات ما عملوا ) والمراد أصابهم عقاب سيئات ما عملوا ( وحاق بهم ) أي : نزل بهم على وجه أحاط بجوانبهم : ( ما كانوا به يستهزئون ) أي : عقاب استهزائهم .
[ ص: 23 ] قوله تعالى : ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين )
اعلم أن هذا هو ، وتقريرها : أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة فقالوا : لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان ، سواء جئت أو لم تجئ ، ولو شاء الله الكفر فإنه يحصل الكفر سواء جئت أو لم تجئ ، وإذا كان الأمر كذلك فالكل من الله تعالى ، ولا فائدة في مجيئك وإرسالك ، فكان القول بالنبوة باطلا ، وفي الآية مسائل : الشبهة الثالثة لمنكري النبوة
المسألة الأولى : اعلم أن هذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله : ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم ) [ الأنعام : 148 ] واستدلال المعتزلة به مثل استدلالهم بتلك الآية . والكلام فيه استدلالا واعتراضا عين ما تقدم هناك ، فلا فائدة في الإعادة ، ولا بأس بأن نذكر منه القليل فنقول : الجواب عن هذه الشبهة هي أنهم قالوا : لما كان الكل من الله تعالى كان بعثه الأنبياء عبثا . فنقول : هذا اعتراض على الله تعالى ، فإن قولهم : إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ودفع الكفر كانت بعثة الأنبياء غير جائزة من الله تعالى ، فهذا القول جار مجرى طلب العلة في أحكام الله تعالى وفي أفعاله ، وذلك باطل ، بل لله تعالى أن يحكم في ملكه وملكوته ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، ولا يجوز أن يقال له : لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك ؟ والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح في آخر هذه الآية بهذا المعنى فقال : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) ، وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت . فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم
ثم قال : ( فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) والمعنى : ، فهذه سنة قديمة لله تعالى مع العباد ، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر ، ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض . ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل ، وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين ، كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله ، فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن ، لا لأنهم كذبوا في قولهم : ( أنه تعالى وإن أمر الكل بالإيمان ، ونهى الكل عن الكفر ، إلا أنه تعالى هدى البعض وأضل البعض لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ) بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل ، فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن . فهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب . وأما من تقدمنا من المتكلمين والمفسرين فقد ذكروا فيه وجها آخر فقالوا : إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب عليه السلام له : ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) [ هود : 87 ] ولو قالوا ذلك معتقدين لكانوا مؤمنين . والله أعلم .
[ ص: 24 ] المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما حكى هذه الشبهة قال : ( كذلك فعل الذين من قبلهم ) أي : هؤلاء الكفار أبدا كانوا متمسكين بهذه الشبهة .
ثم قال : ( فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) أما المعتزلة فقالوا : معناه أن الله تعالى ما منع أحدا من الإيمان وما أوقعه في الكفر ، ، فلما بلغوا التكاليف وثبت أنه تعالى ما منع أحدا عن الحق كانت هذه الشبهة ساقطة . أما أصحابنا فقالوا : معناه أنه تعالى أمر الرسل بالتبليغ . فهذا التبليغ واجب عليهم ، فأما أن الإيمان هل يحصل أم لا يحصل ، فذلك لا تعلق للرسول به ، ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه . والرسل ليس عليهم إلا التبليغ
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في بيان أن بقوله : ( الهدى والضلال من الله ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وهذا يدل على أنه تعالى كان أبدا في جميع الملل والأمم آمرا بالإيمان ، وناهيا عن الكفر .