أما قوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين بالآية المتقدمة أن الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ ، بين بهذه الآية أن ، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات ، وبالغ في شكر نعمة الله تعالى فإنه يكون مقصرا ، وذلك لأن الاشتغال بشكر النعم مشروط بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل والتحصيل ، فإن من لا يكون متصورا ولا مفهوما ولا معلوما امتنع الاشتغال بشكره ، إلا أن العلم بنعم الله تعالى على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد ; لأن نعم الله تعالى كثيرة ، وأقسامها وشعبها واسعة عظيمة ، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمباديها فضلا عن غاياتها ، وأنها غير معلومة على سبيل التفصيل ، وما كان كذلك امتنع الاشتغال بشكره على الوجه الذي يكون ذلك الشكر لائقا بتلك النعم . فهذا هو المفهوم من قوله : ( العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله تعالى وشكر نعمه والقيام بحقوق كرمه على سبيل الكمال والتمام وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) يعني : أنكم لا تعرفونها على سبيل التمام والكمال ، وإذا لم تعرفوها امتنع منكم القيام بشكرها [ ص: 13 ] على سبيل التمام والكمال ، وذلك يدل على أن شكر الخالق قاصر عن نعم الحق ، وعلى أن طاعات الخلق قاصرة عن ربوبية الحق ، وعلى أن ، ومما يدل قطعا على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لتنغص العيش على الإنسان ، ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل . ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الأكمل الأصلح ، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بكيفية مصالحه ولا بدفع مفاسده ، فليكن هذا المثال حاضرا في ذهنك ، ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان ، وجعلها مهيأة لانتفاعك بها ، حتى تعلم أن عقول الخلق تفنى في معرفة حكمة الرحمن في خلق الإنسان فضلا عن سائر وجوه الفضل والإحسان . معارف الخلق قاصرة عن كنه جلال الحق
فإن قيل : فلما قررتم أن الاشتغال بالشكر موقوف على حصول العلم بأقسام النعم ، ودللتم على أن حصول العالم بأقسام النعم محال أو غير واقع ، فكيف أمر الله الخلق بالقيام بشكر النعم ؟ .
قلنا : الطريق إليه أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها . فهذا هو الطريق الذي به يمكن الخروج عن عهدة الشكر . والله أعلم .
المسألة الثانية : قال بعضهم : إنه ليس لله على الكفار نعمة وقال الأكثرون : . والدليل عليه : أن الإنعام بخلق السماوات والأرض ، والإنعام بخلق الإنسان من النطفة ، والإنعام بخلق الأنعام وبخلق الخيل والبغال والحمير ، وبخلق أصناف النعم من الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ، وبتسخير البحر ليأكل الإنسان منه لحما طريا ويستخرج منه حلية يلبسها ، كل ذلك مشترك فيه بين المؤمن والكافر ، ثم أكد تعالى ذلك بقوله تعالى : ( لله على الكافر والمؤمن نعم كثيرة وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) وذلك يدل على أن كل هذه الأشياء نعم من الله تعالى في حق الكل ، وهذا يدل على أن نعم الله واصلة إلى الكفار ، والله أعلم .
أما قوله : ( إن الله لغفور رحيم ) اعلم أنه تعالى قال في سورة إبراهيم : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) [ إبراهيم : 34 ] وقال ههنا : ( إن الله لغفور رحيم ) والمعنى : أنه لما بين أن الإنسان لا يمكنه القيام بأداء الشكر على سبيل التفصيل : قال : ( إن الله لغفور رحيم ) أي غفور للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه ، رحيم بكم حيث لم يقطع نعمه عليكم بسبب تقصيركم .
أما قوله : ( والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ) ففيه وجهان :
الأول : أن الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى يسرون ضروبا من الكفر في مكايد الرسول عليه السلام ، فجعل هذا زجرا لهم عنها .
والثاني : أنه تعالى زيف في الآية الأولى عبادة الأصنام بسبب أنه لا قدرة لها على الخلق والإنعام ، وزيف في هذه الآية أيضا عبادتها ; بسبب أن الإله يجب أن يكون عالما بالسر والعلانية ، وهذه ؟ . الأصنام جمادات لا معرفة لها بشيء أصلا ، فكيف تحسن عبادتها
أما قوله : ( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ) فاعلم أنه تعالى وصف هذه الأصنام بصفات كثيرة .
فالصفة الأولى : أنهم لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، قرأ حفص عن عاصم : " يسرون " " ويعلنون " " ويدعون " كلها بالياء على الحكاية عن الغائب ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ( يدعون ) بالياء خاصة على المغايبة ، وتسرون [ ص: 14 ] وتعلنون بالتاء على الخطاب ، والباقون كلها بالتاء على الخطاب عطفا على ما قبله .
فإن قيل : أليس أن قوله في أول الآية : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئا ، وقوله ههنا : ( لا يخلقون شيئا ) يدل على نفس هذا المعنى ، فكان هذا محض التكرير .
وجوابه : أن المذكور في أول الآية أنهم لا يخلقون شيئا ، والمذكور ههنا أنهم لا يخلقون شيئا وأنهم مخلوقون لغيرهم ، فكان هذا زيادة في المعنى ، وكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم ، فبين أولا أنها لا تخلق شيئا ، ثم ثانيا أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة لغيرها .
والصفة الثانية : قوله : ( أموات غير أحياء ) والمعنى : أنها لو كانت آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات ، أي غير جائز عليها الموت كالحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى ، وأمر هذه الأصنام على العكس من ذلك .
فإن قيل : لما قال : ( أموات ) علم أنها غير أحياء ، فما الفائدة في قوله : ( غير أحياء ) ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أن ، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها الحياة . الإله هو الحي الذي لا يحصل عقيب حياته موت
والثاني : أن هذا الكلام مع الكفار الذين يعبدون الأوثان ، وهم في نهاية الجهالة والضلالة ، ومن تكلم مع الجاهل الغر الغبي فقد يحسن أن يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة ، وغرضه منه الإعلام بكون ذلك المخاطب في غاية الغباوة ، وأنه إنما يعيد تلك الكلمات لكون ذلك السامع في نهاية الجهالة ، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة .
الصفة الثالثة : قوله : ( وما يشعرون أيان يبعثون ) والضمير في قوله : ( وما يشعرون ) عائد إلى الأصنام ، وفي الضمير في قوله : ( يبعثون ) قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى العابدين للأصنام ، يعني : أن الأصنام لا يشعرون متى تبعث عبدتهم ، وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم .
والثاني : أنه عائد إلى الأصنام يعني : أن هذه الأصنام لا تعرف متى يبعثها الله تعالى ، قال : إن ابن عباس . الله يبعث الأصنام ولها أرواح ومعها شياطينها ، فيؤمر بها إلى النار
فإن قيل : الأصنام جمادات ، والجمادات لا توصف بأنها أموات ، ولا توصف بأنهم لا يشعرون كذا وكذا .
والجواب عنه من وجوه .
الأول : أن الجماد قد يوصف بكونه ميتا قال تعالى : ( يخرج الحي من الميت ) [ الروم : 19 ] .
والثاني : أن القوم لما وصفوا تلك الأصنام بالإلهية والمعبودية قيل لهم : ليس الأمر كذلك ، بل هي أموات ولا يعرفون شيئا ، فنزلت هذه العبارات على وفق معتقدهم .
والثالث : أن يكون المراد بقوله : ( والذين يدعون من دون الله ) الملائكة ، وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله : إنهم أموات لا بد لهم من الموت غير أحياء ، أي غير باقية حياتهم : ( وما يشعرون أيان يبعثون ) أي : لا علم لهم بوقت بعثهم ، والله أعلم .