المنفعة الأولى : قوله تعالى : ( لتأكلوا منه لحما طريا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال : " لحم طري " غير مهموز ، وقد طرو يطرو طراوة ، وقال ابن الأعرابي الفراء : " طرا يطرا طراء " - ممدودا - وطراوة ، كما يقال : شقى يشقى شقاء وشقاوة .
واعلم أن في ذكر الطري مزيد فائدة ، وذلك لأنه لو كان السمك كله مالحا لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري ، فإنه لما خرج من البحر الملح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث لا بحسب الطبيعة ، بل بقدرة الله وحكمته حيث أظهر الضد من الضد .
المسألة الثانية : قال رحمه الله : لو أبو حنيفة لا يحنث ، قالوا : لأن لحم السمك ليس بلحم ، وقال آخرون : إنه يحنث ؛ لأنه تعالى نص على كونه لحما في هذه الآية ، وليس فوق بيان الله بيان . روي أن حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السمك رحمه الله لما قال بهذا القول وسمعه أبا حنيفة فأنكر عليه ذلك ، واحتج عليه بهذه الآية بعث إليه رجلا وسأله عن رجل سفيان الثوري هل يحنث أم لا ؟ قال حلف لا يصلي على البساط ، فصلى على الأرض سفيان : لا يحنث ، فقال السائل : أليس أن الله تعالى قال : ( والله جعل لكم الأرض بساطا ) [ نوح : 19 ] قال : فعرف سفيان أن ذلك كان بتلقين . أبي حنيفة
ولقائل أن يقول : هذا الكلام ليس بقوي ، لأن أقصى ما في الباب أنا تركنا العمل بظاهر القرآن في لفظ البساط للدليل الذي قام عليه ، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى ، والفرق بين الصورتين من وجهين :
الأول : أنه لما حلف لا يصلي على البساط ، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساط لزمنا أن نمنعه من الصلاة ; لأنه إن صلى على الأرض المفروشة بالبساط لزمه الحنث لا محالة ، ولو صلى على الأرض التي لا تكون مفروشة لزمه الحنث أيضا على تقدير أن يدخل الأرض تحت لفظ البساط ، فهذا يقتضي منعه من الصلاة ، وذلك مما لا سبيل إليه ، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظ اللحم ، لأنه ليس في منعه من أكل اللحم على الإطلاق محذور فظهر الفرق .
الثاني : أنا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة أن وقوع اسم البساط على الأرض الخالصة مجاز ، أما وقوع اسم اللحم على لحم السمك فلم يعرف أنه مجاز ، فظهر الفرق والله أعلم .
وحجة رحمه الله : أن أبي حنيفة ، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه لحم السمك ، بدليل أنه إذا قال الرجل لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار . مبنى الأيمان على العادة
والجواب : أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ وتارة تعتبرون العرف ، وما رأيناكم ذكرتم [ ص: 7 ] ضابطا بين القسمين ، والدليل عليه أنه إذا قال لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحما ، فجاء بلحم العصفور كان حقيقا بالإنكار عليه ، مع أنكم تقولون : إنه يحنث بأكل لحم العصفور ، فثبت أن العرف مضطرب ، والرجوع إلى نص القرآن متعين . والله أعلم .
المنفعة الثانية من قوله تعالى : ( منافع البحر وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) والمراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان كما قال تعالى : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) [ الرحمن : 22 ] والمراد : بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ، ولأن إقدامهن على التزين بها إنما يكون من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم ، ورأيت بعض أصحابنا تمسكوا في مسألة أنه لا يجب المباح بحديث الزكاة في الحلي عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا زكاة في الحلي " فقلت : هذا الحديث ضعيف الرواية ، وبتقدير الصحة فيمكن أن يقال فيه : لفظ الحلي لفظ مفرد محلى بالألف واللام ، وقد بينا في أصول الفقه أن هذا اللفظ يجب حمله على المعهود السابق ، والحلي الذي هو المعهود السابق هو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في هذه الآية وهو قوله : ( وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) فصار بتقدير صحة ذلك الخبر لا زكاة في اللآلئ ، وحينئذ يسقط الاستدلال به . والله أعلم .
المنفعة الثالثة : قوله تعالى : ( وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ) قال أهل اللغة : مخر السفينة شقها الماء بصدرها ، وعن الفراء : أنه صوت جري الفلك بالرياح .
إذا عرفت هذا فقول : ( ابن عباس مواخر ) أي : جواري ، إنما حسن التفسير به ، لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية . وقوله تعالى : ( ولتبتغوا من فضله ) يعني : لتركبوه للتجارة ، فتطلبوا الربح من فضل الله ، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره . والله أعلم .