المسألة الخامسة : احتج أصحابنا على صحة قولهم في أن بقوله تعالى : ( فعل العبد مخلوق لله تعالى بإذن ربهم ) فإن معنى الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بإذن ربهم ، والمراد بهذا الإذن إما الأمر ، وإما العلم ، وإما المشيئة والخلق ، وحمل الإذن على الأمر محال ، لأن الإخراج من الجهل إلى العلم لا يتوقف على الأمر ، فإنه سواء حصل الأمر أو لم يحصل ، فإن الجهل متميز عن العلم والباطل متميز عن الحق ، وأيضا حمل الإذن على العلم محال ؛ لأن العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلم بالخروج من الظلمات إلى النور تابع لذلك الخروج ويمتنع أن يقال إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن يكون المراد من الإذن المشيئة والتخليق ، وذلك يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف؟
قلنا : لفظ اللطف لفظ مجمل ونحن نفصل القول فيه ، فنقول : المراد بالإذن إما أن يكون أمرا يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ، أو لا يقتضي ذلك ، فإن كان الثاني لم يكن فيه أمر البتة ، فامتنع أن يقال : إنه مما حصل بسببه ولأجله فبقي الأول ، وهو أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ، وقد دللنا في "الكتب العقلية" على أنه متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة ، وهو عين قولنا ، والله أعلم.