ثم قال : ( إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون ) قال رضي الله عنهما : إن المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء . ابن عباس
واعلم أن لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال ، أو غير عالم بجميع المعلومات ، أو ليس بكريم ؛ بل هو بخيل ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة ، وكل واحد منها كفر ؛ ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا ، والله أعلم ، وقد بقي من مباحث هذه الآية سؤالات : اليأس من رحمة الله تعالى
السؤال الأول : أن بلوغ يعقوب في حب يوسف إلى هذا الحد العظيم لا يليق إلا بمن كان غافلا عن الله ، فإن من عرف الله أحبه ، ومن أحب الله لم يتفرغ قلبه لحب شيء سوى الله تعالى ، وأيضا القلب الواحد لا يتسع للحب المستغرق لشيئين ، فلما كان قلبه مستغرقا في حب ولده امتنع أن يقال : إنه كان مستغرقا في حب الله تعالى .
والسؤال الثاني : أن عند استيلاء الحزن الشديد عليه كان من الواجب أن يشتغل بذكر الله تعالى ، وبالتفويض إليه والتسليم لقضائه .
وأما قوله : ( ياأسفى على يوسف ) فذلك لا يليق بأهل الدين والعلم فضلا عن أكابر الأنبياء .
والسؤال الثالث : لا شك أن يعقوب كان من أكابر الأنبياء ، وكان أبوه وجده وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الدنيا ، ومن كان كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة صعبة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية ، بل لا بد وأن يبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها ، وبقي يعقوب على حزنه الشديد وأسفه العظيم ، وكان يوسف في مصر ، وكان يعقوب في بعض بلاد الشام قريبا من مصر ، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة مخفية .
السؤال الرابع : لم لم يبعث يوسف عليه السلام أحدا إلى يعقوب ، ويعلمه أنه في الحياة وفي السلامة ، ولا يقال : إنه كان يخاف إخوته ؛ لأنه بعد أن صار ملكا قاهرا كان يمكنه إرسال الرسول إليه ، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع الرسول ؟
والسؤال الخامس : كيف جاز ليوسف عليه السلام أن يضع الصاع في وعاء أخيه ثم يستخرجه منه ويلصق به تهمة السرقة مع أنه كان بريئا عنها .
السؤال السادس : كيف رغب في إلصاق هذه التهمة به وفي حبسه عند نفسه مع أنه كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى . [ ص: 160 ]
والجواب عن الأول : أن مثل هذه المحنة الشديدة تزيل عن القلب كل ما سواه من الخواطر .
ثم إن صاحب هذه المحنة الشديدة يكون كثير الرجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدعاء والتضرع ، فيصير ذلك سببا لكمال الاستغراق .
والجواب عن الثاني : أن الدواعي الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة ، فتارة كان يقول : ( ياأسفى على يوسف ) وتارة كان يقول : ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) ( يوسف : 18 ) وأما بقية الأسئلة فالقاضي أجاب عنها بجواب كلي حسن ، فقال : هذه الوقائع التي نقلت إلينا إما يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لا يمكن ، فإن كان الأول فلا إشكال ، وإن كان الثاني فنقول : كان ذلك الزمان زمان الأنبياء عليهم السلام ، وخرق العادة في هذا الزمان غير مستبعد ، فلم يمتنع أن يقال : إن بلدة يعقوب عليه السلام مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه السلام ، ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل نقض العادة .