واعلم أن للخصم مقامات :
أحدها : أن النظر لا يفيد العلم . وثانيها : أن النظر المفيد للعلم غير مقدور . وثالثها : أنه لا يجوز الإقدام عليه . ورابعها : أن الرسول ما أمر به . وخامسها : أنه بدعة .
أما المقام الأول : فاحتج الخصم عليه بأمور :
أحدها : أنا إذا تفكرنا وحصل لنا عقيب فكرنا اعتقاد فعلمنا بكون ذلك الاعتقاد علما ، إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، والأول باطل لأن الإنسان إذا تأمل في اعتقاده في كون ذلك الاعتقاد علما ، وفي اعتقاده في أن الواحد نصف الاثنين ، وأن الشمس مضيئة ، والنار محرقة ، وجد الأول أضعف من الثاني ، وذلك يدل على أن تطرق الضعف إلى الأول والثاني باطل ؛ لأن الكلام في ذلك الفكر الثاني كالكلام في الأول ، فيلزم التسلسل وهو محال .
[ ص: 85 ] وثانيها : أنا رأينا عالما من الناس قد تفكروا واجتهدوا وحصل لهم عقيب فكرهم اعتقاد ، وكانوا جازمين بأنه علم ثم ظهر لهم أو لغيرهم أن ذلك كان جهلا فرجعوا عنه وتركوه ، وإذا شاهدنا ذلك في الوقت الأول جاز أن يكون الاعتقاد الحاصل ثانيا كذلك ، وعلى هذا الطريق لا يمكن الجزم بصحة شيء من العقائد المستفادة من الفكر والنظر .
وثالثها : أن المطلوب إن كان مشعورا به استحال طلبه ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، وإن كان غير مشعور به كان الذهن غافلا عنه ، والمغفول عنه يستحيل أن يتوجه الطلب إليه .
ورابعها : أن العلم بكون النظر مفيدا للعلم إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، فإن كان ضروريا وجب اشتراك العقلاء فيه ، وليس كذلك . وإن كان نظريا لزم إثبات جنس الشيء بفرد من أفراده ، وذلك محال ؛ لأن النزاع لما وقع في الماهية كان واقعا في ذلك الفرد أيضا فيلزم إثبات الشيء بنفسه ، وهو محال ؛ لأنه من حيث أنه وسيلة الإثبات يجب أن يكون معلوما قبل ، ومن حيث إنه مطلوب يجب أن لا يكون معلوما قبل ، فيلزم اجتماع النفي والإثبات وهو محال .
وخامسها : أن المقدمة الواحدة لا تنتج بل المنتج مجموع المقدمتين ، لكن حضور المقدمتين دفعة واحدة في الذهن محال ؛ لأنا جربنا أنفسنا فوجدنا أنا متى وجهنا الخاطر نحو معلوم استحال في ذلك الوقت توجيهه نحو معلوم آخر ، وربما سلم بعضهم أن النظر في الجملة يفيد العلم لكنه يقول : النظر في الإلهيات لا يفيد ، واحتج عليه بوجهين :
الأول : أن وإذا لم تكن الحقيقة متصورة استحال التصديق لا بثبوته ولا بثبوت صفة من صفاته . حقيقة الإله غير متصورة
بيان الأول أن المعلوم عند البشر كون ، وكونه موصوفا بالعلم والقدرة . أما الوجوب والتنزيه فهو قيد سلبي وليست حقيقته نفس هذا السلب . فلم يكن العلم بهذا السلب علما بحقيقته ، وأما الموصوفية بالعلم والقدرة فهو عبارة عن انتساب ذاته إلى هذه الصفات وليست ذاته نفس هذا الانتساب ، فالعلم بهذا الانتساب ليس علما بذاته . واجب الوجود منزها عن الحيز والجهة
بيان الثاني أن التصديق موقوف على التصور ، فإذا فقد التصور امتنع التصديق ، ولا يقال : ذاته تعالى وإن لم تكن متصورة بحسب الحقيقة المخصوصة التي له لكنها متصورة بحسب لوازمها ؛ أعني أنا نعلم أنه شيء ما ، يلزمه الوجوب والتنزيه والدوام فيحكم على هذا المتصور ، قلنا : هذه الأمور المعلومة إما أن يقال : إنها نفس الذات ، وهو محال ، أو أمور خارجة عن الذات ، فلما لم نعلم الذات لا يمكننا أن نعلم كونها موصوفة بهذه الصفات ، فإن كان التصور الذي هو شرط إسناد هذه الصفات إلى ذاته هو أيضا تصور بحسب صفات أخر ، فحينئذ يكون الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل ، وهو محال .
الوجه الثاني : أن أظهر الأشياء عندنا ذاتنا وحقيقتنا التي إليها نشير بقولنا : أنا . ثم الناس تحيروا في ماهية المشار إليه بقول : أنا ، فمنهم من يقول : هو هذا البنية ، ومنهم من يقول : هو المزاج ، ومنهم من يقول : بعض الأجزاء الداخلة في هذه البنية ، ومنهم من يقول : شيء لا داخل هذا البدن ولا خارجه ، فإذا كان الحال في أظهر الأشياء كذلك فما ظنك بأبعد الأشياء مناسبة عنا وعن أحوالنا .
[ ص: 86 ] أما المقام الثاني : وهو أن النظر المفيد للعلم غير مقدور لنا ، فقد احتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أن تحصيل التصورات غير مقدور فالتصديقات البديهية غير مقدورة ، فجميع التصديقات غير مقدورة ، وإنما قلنا : إن التصورات غير مقدورة ؛ لأن طالب تحصيلها إن كان عارفا بها استحال منه طلبها لأن تحصيل الحاصل محال ، فإن كان غافلا عنها استحال كونه طالبا لها لأن الغافل عن الشيء لا يكون طالبا له .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون معلوما من وجه ومجهولا من وجه ؟ قلنا : لأن الوجه الذي يصدق عليه أنه معلوم غير الوجه الذي يصدق عليه أنه غير معلوم ، وإلا فقد صدق النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال ، وحينئذ نقول : الوجه المعلوم استحال طلبه لاستحالة تحصيل الحاصل ، والوجه الذي هو غير معلوم استحال طلبه ؛ لأن المغفول عنه لا يكون مطلوبا ، وإنما قلنا : إن التصورات لما كانت غير كسبية استحال كون التصديقات البديهية كسبية ، وذلك لأن عند حضور طرفي الموضوع والمحمول في الذهن من القضية البديهية إما أن يلزم من مجرد حضورهما جزم الذهن بإسناد أحدهما إلى الآخر بالنفي أو الإثبات ، أو لا يلزم ، فإن لم يلزم لم تكن القضية بديهية بل كانت مشكوكة . وإن لزم كان التصديق واجب الحصول عند حضور ذينك التصورين وممتنع الحصول عند عدم حضورهما ، وما يكون واجب الدوران نفيا وإثباتا مع ما لا يكون مقدورا نفيا وإثباتا وجب أن يكون أيضا كذلك ، فثبت أن التصديقات البديهية غير كسبية ؛ وإنما قلنا : إن هذه التصديقات لما لم تكن كسبية لم يكن شيء من التصديقات كسبيا ؛ لأن التصديق الذي لا يكون بديهيا لا بد وأن يكون نظريا ، فلا يخلو إما أن يكون واجب اللزوم عند حضور تلك التصديقات البديهية أو لا يكون ، فإن لم يكن واجب اللزوم منها لم يلزم من صدق تلك المقدمات صدق ذلك المطلوب ، فلم يكن ذلك استدلالا يقينيا ، بل إما ظنا أو اعتقادا تقليديا ، وإن كان واجبا فكانت تلك النظريات واجبة الدوران نفيا وإثباتا مع تلك القضايا الضرورية ، فوجب أن لا يكون شيء من تلك النظريات مقدورا للعبد أصلا .
وثانيها : أن الإنسان إنما يكون قادرا على إدخال الشيء في الوجود لو كان يمكنه أن يميز ذلك المطلوب عن غيره ، والعلم إنما يتميز عن الجهل بكونه مطابقا للمعلوم دون الجهل ، وإنما يعلم ذلك لو علم المعلوم على ما هو عليه ، فإذن لا يمكنه إيجاد العلم بذلك الشيء إلا إذا كان عالما بذلك الشيء ، لكن ذلك محال لاستحالة تحصيل الحاصل ، فوجب أن لا يكون العبد متمكنا من إيجاد العلم ولا من طلبه .
وثالثها : أن الموجب للنظر ، إما ضرورة العقل أو النظر أو السمع . والأول باطل لأن الضروري لم يشترط العقل فيه ، ووجوب الفكر والنظر ليس كذلك ، بل كثير من العقلاء يستقبحونه ، ويقولون : إنه في الأكثر يفضي بصاحبه إلى الجهل ، فوجب الاحتراز منه .
والثاني أيضا باطل ؛ لأنه إذا كان العلم بوجوبه يكون نظريا ، فحينئذ لا يمكنه العلم بوجوب النظر قبل النظر ، فتكليفه بذلك يكون تكليف ما لا يطاق ، وأما بعد النظر فلا يمكنه النظر ؛ لأنه لا فائدة فيه .
والثالث باطل ؛ لأنه قبل النظر لا يكون متمكنا من معرفة وجوب النظر ، وبعد النظر لا يمكنه إيجابه أيضا لعدم الفائدة ، وإذا بطلت الأقسام ثبت نفي الوجوب .