( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ) [ ص: 165 ] ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم )
قوله تعالى :( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ) .
اعلم أنه تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أربعة أقسام ، وذكر حكم كل واحد منهم ، وتقرير هذه القسمة أنه عليه السلام ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين ، ثم انتقل من مكة إلى المدينة ، فحين هاجر من مكة إلى المدينة صار المؤمنون على قسمين منهم من وافقه في تلك الهجرة ، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي هناك .
أما القسم الأول : فهم ، وقد وصفهم بقوله :( المهاجرون الأولون إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) وإنما قلنا إن المراد منهم المهاجرون الأولون ، لأنه تعالى قال في آخر الآية :( والذين آمنوا من بعد وهاجروا ) وإذا ثبت هذا ظهر أن هؤلاء موصوفون بهذه الصفات الأربعة :
أولها : أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتمردوا ، فقوله :( إن الذين ) يفيد هذا المعنى .
والصفة الثانية : قوله :( وهاجروا ) يعني : فارقوا الأوطان ، وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله ، ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة ، قال تعالى :( أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ) [ النساء : 66] جعل مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس ، فهؤلاء في المرتبة الأولى تركوا الأديان القديمة لطلب مرضاة الله تعالى ، وفي المرتبة الثانية تركوا الأقارب والخلان والأوطان والجيران لمرضاة الله تعالى .
والصفة الثالثة : قوله :( وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) أما المجاهدة بالمال فلأنهم لما فارقوا الأوطان فقد ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم ومزارعهم ، وبقيت في أيدي الأعداء ، وأيضا فقد احتاجوا إلى الإنفاق الكثير بسبب تلك العزيمة ، وأيضا كانوا ينفقون أموالهم على تلك الغزوات ، وأما المجاهدة بالنفس فلأنهم كانوا أقدموا على محاربة بدر من غير آلة ولا أهبة ولا عدة مع الأعداء الموصوفين بالكثرة والشدة ، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله .
[ ص: 166 ] وأما الصفة الرابعة : فهي أنهم كانوا أول الناس إقداما على هذه الأفعال والتزاما لهذه الأحوال ، ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين ، قال تعالى :( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) [الحديد : 10] وقال :( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) [ التوبة : 100 ] وإنما كان السبق موجبا للفضيلة ؛ لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم ، فيصير ذلك سببا للقوة أو الكمال ، ولهذا المعنى قال تعالى :( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) [المائدة : 32] وقال عليه السلام : " " ومن عادة الناس أن دواعيهم تقوى بما يرون من أمثالهم في أحوال الدين والدنيا ، كما أن المحن تخف على قلوبهم بالمشاركة فيها ، فثبت أن حصول هذه الصفات الأربعة للمهاجرين الأولين يدل على غاية الفضيلة ونهاية المنقبة ، وأن ذلك يوجب الاعتراف بكونهم رؤساء المسلمين وسادة لهم . من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة
وأما القسم الثاني : من المؤمنين الموجودين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم فهم الأنصار ، وذلك لأنه عليه السلام لما هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه ، فلولا أنهم آووا ونصروا وبذلوا النفس والمال في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصلاح مهمات أصحابه لما تم المقصود البتة ، ويجب أن يكون المهاجرين أعلى في الفضيلة من حال الأنصار لوجوه : حال
أولها : أنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب .
وثانيها : أنهم تحملوا العناء والمشقة دهرا دهيرا ، وزمانا مديدا من كفار قريش وصبروا عليه ، وهذه الحال ما حصلت للأنصار .
وثالثها : أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران ، ولم يحصل ذلك للأنصار .
ورابعها : أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول عليه السلام إنما حصل من المهاجرين ، والأنصار اقتدوا بهم وتشبهوا بهم ، وقد ذكرنا أنه عليه السلام قال : " " فوجب أن يكون المقتدي أقل مرتبة من المقتدى به ، فجملة هذه الأحوال توجب تقديم المهاجرين الأولين على من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة الأنصار في الفضل والدرجة والمنقبة ، فلهذا السبب أينما ذكر الله هذين الفريقين قدم المهاجرين على الأنصار وعلى هذا الترتيب ورد ذكرهما في هذه الآية .
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذين القسمين في هذه الآية قال :( أولئك بعضهم أولياء بعض ) واختلفوا في المراد بهذه الولاية ، فنقل الواحدي عن والمفسرين كلهم ، أن المراد هو الولاية في الميراث ، وقالوا : ابن عباس ، وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر ، واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى ؛ لأن هذا اللفظ مشعر بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب ، ويقال : " جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة والنصرة دون القرابة " ولا يفيد الإرث ، وقال تعالى :( السلطان ولي من لا ولي له ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [يونس : 62] ولا يفيد الإرث بل الولاية تفيد القرب فيمكن حمله على غير الإرث ، وهو كون بعضهم معظما للبعض مهتما بشأنه مخصوصا بمعاونته ومناصرته ، والمقصود أن يكونوا يدا واحدة على الأعداء ، وأن يكون حب كل واحد لغيره جاريا مجرى حبسه لنفسه ، وإذا كان اللفظ محتملا لهذا المعنى كان حمله على الإرث بعيدا عن دلالة اللفظ ، لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم صار منسوخا بقوله تعالى في آخر الآية :( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ) وأي حاجة تحملنا على [ ص: 167 ] حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ! ثم الحكم بأنه صار منسوخا بآية أخرى مذكورة معه ، هذا في غاية البعد ، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك ، فحينئذ يجب المصير إليه إلا أن دعوى الإجماع بعيدة .