قوله تعالى :( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) .
اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيها مسائل :
المسألة الأولى : المروي عن ( ابن عباس هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) وهي نفس آدم ( وخلق منها زوجها ) أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى( فلما تغشاها ) آدم ( حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت ) أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال : ما هذا يا حواء ! إني أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج ؟ أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك ؟ فخافت حواء ، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام ، فلم يزالا في هم من ذلك ، ثم أتاها وقال : إن سألت الله أن يجعله صالحا سويا مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحارث ، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذلك قوله :( فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) أي لما آتاهما الله ولدا سويا صالحا جعلا له شريكا أي جعل آدم وحواء له شريكا ، والمراد به الحارث ، هذا تمام القصة .
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه تعالى قال :( فتعالى الله عما يشركون ) وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة .
الثاني : أنه تعالى قال بعده :( أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ) [الأعراف : 191] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى ، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر .
الثالث : لو كان المراد إبليس لقال : أيشركون من لا يخلق شيئا ، ولم يقل ما لا يخلق شيئا ، لأن العاقل إنما يذكر بصيغة "من" لا بصيغة "ما" .
الرابع : آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس ، وكان عالما بجميع الأسماء كما قال تعالى :( أن وعلم آدم الأسماء كلها ) [البقرة : 31] فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحارث ، فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحارث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحارث ؟ وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى إنه لم يجد سوى هذا الاسم ؟ .
الخامس : أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح ، فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار ، فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله :( وعلم آدم الأسماء كلها ) وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس ، كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها ؟ .
السادس : أن بتقدير أن آدم عليه السلام سماه بعبد الحارث ، فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له ، أو جعله صفة له ، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحارث ومخلوق من [ ص: 71 ] قبله . فإن كان الأول لم يكن هذا شركا بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة ، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك ، وإن كان الثاني كان هذا قولا بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكا في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم ، وذلك لا يقوله عاقل . فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ، ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه .
إذا عرفت هذا فنقول : في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد .
التأويل الأول : ما ذكره القفال فقال : إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم ، وقولهم بالشرك ، وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية ، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل ، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك ، فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا ، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين ، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام . ضرب المثل
ثم قال تعالى :( فتعالى الله عما يشركون ) أي تنزه الله عن ذلك الشرك ، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد .
التأويل الثاني : بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم آل قصي ، والمراد من قوله :( هو الذي خلقكم من نفس ) قصي ( وجعل من جنسها زوجها ) عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد قصي ، وعبد اللات ، وجعل الضمير في( يشركون ) لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك .
التأويل الثالث : أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام ، وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه :
الأول : أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام ، وحكى عنهما أنهما قالا :( لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ) أي ذكر أنه تعالى لو آتاهما ولدا صالحا لاشتغلوا بشكر تلك النعمة ، ثم قال :( فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء ) فقوله :( جعلا له شركاء ) ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد ، والتقرير : فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ؟ ثم قال :( فتعالى الله عما يشركون ) أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام ، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الإنعام ، ثم يقال لذلك المنعم : إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك ، فيقول ذلك المنعم : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ، ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي ؟ على التبعيد فكذا ههنا .
الوجه الثاني في الجواب أن نقول : إن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله :( فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ) فنقول : التقدير ، فلما آتاهما [ ص: 72 ] ولدا صالحا سويا جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذا فيما آتاهما ، أي فيما آتى أولادهما ونظيره قوله :( واسأل القرية ) [يوسف : 82] أي واسأل أهل القرية .
فإن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله :( جعلا له شركاء ) .
قلنا : لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله :( جعلا ) المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ، ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع ، وهو قوله تعالى :( فتعالى الله عما يشركون ) .
الوجه الثالث في الجواب : سلمنا أن الضمير في قوله :( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام ، إلا أنه قيل : إنه تعالى لما آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفا على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق ، ثم بدا لهم في ذلك ، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته . وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فلهذا قال تعالى :( فتعالى الله عما يشركون ) والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكيا وعلى هذا التقدير : فالإشكال زائل . عن الله سبحانه : "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه"
الوجه الرابع في التأويل أن نقول : سلمنا صحة تلك القصة المذكورة ، إلا أنا نقول : إنهم سموا بعبد الحارث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحارث ، وقد يسمى المنعم عليه عبدا للمنعم ، يقال في المثل : أنا عبد من تعلمت منه حرفا ، ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان : كتابة عبد وده فلان ، قال الشاعر :
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحارث تنبيها على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه ، وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه ، إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتبا في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد ، فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية .