المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر " ذرياتهم " بالألف على الجمع ، والباقون( ذريتهم ) على الواحد . قال الواحدي : الذرية تقع على الواحد والجمع ، فمن أفرد فإنه قد استغنى عن جمعه وبوقوعه على الجمع فصار كالبشر فإنه يقع على الواحد كقوله :( ما هذا بشرا ) [يوسف : 31] وعلى الجمع كقوله :( أبشر يهدوننا ) [ التغابن : 6 ] وقوله :( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) [إبراهيم : 10] وكما لم يجمع بشر بتصحيح ولا تكسير كذلك لا يجمع الذرية ، ومن جمع قال : إن الذرية وإن كان واحدا فلا إشكال في جواز الجمع فيه ، وإن كان جمعا فجمعه أيضا حسن ؛ لأنك قد رأيت الجموع المكسرة قد جمعت ، نحو الطرقات والجدرات ، وهو اختيار يونس ، أما قوله تعالى :( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) فنقول : أما على قول من أثبت الميثاق الأول فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها ، وأما على قول من أنكره قال : إنها محمولة على التمثيل ، والمعنى : أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فصار ذلك جاريا مجرى ما إذا أشهدهم على أنفسنا وإقرارنا بوحدانيته ، أما قوله :( شهدنا ) ففيه قولان :
القول الأول : أنه من كلام الملائكة ، وذلك لأنهم لما قالوا :( بلى ) قال الله للملائكة اشهدوا ، فقالوا شهدنا ، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله :( قالوا بلى ) لأن كلام الذرية قد انقطع ههنا . وقوله :( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) تقريره : أن الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرار ، لئلا يقولوا ما [ ص: 44 ] أقررنا ، فأسقط كلمة " لا " كما قال :( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) [ النحل : 15 ] يريد لئلا تميد بكم ، هذا قول الكوفيين ، وعند البصريين تقديره : شهدنا كراهة أن يقولوا .
والقول الثاني : أن قوله :( شهدنا ) من بقية كلام الذرية ، وعلى هذا التقرير ، فقوله :( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) متعلق بقوله :( وأشهدهم على أنفسهم ) والتقدير : وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا ، لئلا يقولوا يوم القيامة :( إنا كنا عن هذا غافلين ) أو كراهية أن يقولوا ذلك ، وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله :( شهدنا ) ؛ لأن قوله :( أن يقولوا ) متعلق بما قبله ، وهو قوله :( وأشهدهم ) فلم يجز قطعه منه . واختلف القراء في قوله :( أن يقولوا ) أو تقولوا : فقرأ أبو عمرو بالياء جميعا ؛ لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة ، وهو قوله :( من بني آدم من ظهورهم ) ،( وأشهدهم على أنفسهم ) لئلا يقولوا ، وقرأ الباقون بالتاء ؛ لأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله :( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) وكلا الوجهين حسن ، لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى .
أما قوله :( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ) قال المفسرون : المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد : أن لا يقول الكفار إنما أشركنا ؛ لأن آباءنا أشركوا ، فقلدناهم في ذلك الشرك ، وهو المراد من قوله :( أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) والحاصل : أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا القدر . وأما الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل . قالوا : معنى الآية أنا نصبنا هذه الدلائل ، وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة :( إنا كنا عن هذا غافلين ) فما نبهنا عليه منبه ، أو كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا ، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم ، فلا عذر لهم في الإعراض عنه ، والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء .
ثم قال :( وكذلك نفصل الآيات ) والمعنى : أن مثل ما فصلنا وبينا في هذه الآية ، بينا سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ، ويعرضوا عن الباطل ، وهو المراد من قوله :( ولعلهم يرجعون ) وقيل : أي ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد ، وفي الآية قول ثالث ؛ وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان ، والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها ، وهذا العلم ليس يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب ، وهذا البحث إنما ينكشف تمام الانكشاف بأبحاث عقلية غامضة ، لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب . والله أعلم .