( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين )
قوله تعالى : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين )
فيه مسائل :
المسألة الأولى : "الكاف" في كذلك للتشبيه ، وذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره ، والمذكور ههنا فيما قبل هو أنه - عليه السلام - استقبح عبادة الأصنام ، وهو قوله : ( إني أراك وقومك في ضلال مبين ) والمعنى : ومثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السماوات والأرض . وههنا دقيقة عقلية ، وهي أن نور جلال الله [ ص: 35 ] تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة ، والأرواح البشرية لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب ، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى ، فإذا كان الأمر كذلك فبقدر ما يزول ذلك الحجاب يحصل هذا التجلي فقول إبراهيم - عليه السلام - : ( أتتخذ أصناما آلهة ) إشارة إلى ؛ لأن تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى ، فلما زال ذلك الحجاب لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام ، فقوله : ( كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات ) معناه : وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلي جلال الله تعالى ، فكان قوله : ( وكذلك ) منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية .
المسألة الثانية : لقائل أن يقول هذه الإراءة قد حصلت فيما تقدم من الزمان ، فكان الأولى أن يقال : وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، فلم عدل عن هذه اللفظة إلى قوله : ( وكذلك نري ) ؟
قلنا : الجواب عنه من وجوه :
الأول : أن يكون تقدير الآية ، وكذلك كنا نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، فيكون هذا على سبيل الحكاية عن الماضي . والمعنى أنه تعالى لما حكى عنه أنه شافه أباه الكلام الخشن تعصبا للدين الحق . فكأنه قيل : وكيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ العظيم في قوة الدين ، فأجيب بأنا كنا نريه ملكوت السماوات والأرض من وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه .
الوجه الثاني في الجواب : وهو أعلى وأشرف مما تقدم ، وهو أنا نقول : إنه ليس المقصود من إبراهيم ملكوت السماوات والأرض هو مجرد أن يرى إراءة الله إبراهيم هذا الملكوت ، بل المقصود أن يراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته . ومعلوم أن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات ، إلا أن جهات دلالاتها على الذوات والصفات غير متناهية . وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر ضياء الدين - رحمه الله تعالى - قال : سمعت الشيخ يقول : سمعت إمام الحرمين يقول : معلومات الله تعالى غير متناهية ، ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات أيضا غير متناهية ، وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، ويمكن إنصافه بصفات لا نهاية لها على البدل ، وكل تلك الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله تعالى وقدرته أيضا ، وإذا كان الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ كذلك ؛ فكيف القول في كل ملكوت الله تعالى ، فثبت أن أبا القاسم الأنصاري غير متناهية ، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال ، فإذا لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقيب البعض لا إلى نهاية ولا إلى آخر في المستقبل ، فلهذا السبب -والله أعلم- لم يقل : وكذلك أريناه ملكوت السماوات والأرض ، بل قال : ( دلالة ملك الله تعالى وملكوته على نعوت جلاله وسمات عظمته وعزته وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية ، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له . والله أعلم .