أما قوله تعالى : ( وهم لا يفرطون ) أي لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به ، وهذا يدل على أن . وقوله في صفة ملائكة النار : ( الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يقصرون فيما أمروا به لا يعصون الله ما أمرهم ) [التحريم : 6] يدل على أن ملائكة العذاب لا يقصرون في تلك التكاليف ، وكل من أثبت عصمة الملائكة في هذه الأحوال أثبت عصمتهم على الإطلاق ، فدلت هذه الآية على ثبوت عصمة الملائكة على الإطلاق .
أما قوله تعالى : ( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) ففيه مباحث :
الأول : قيل المردودون هم الملائكة يعني آدم يموت أيضا أولئك الملائكة . وقيل : بل المردودون البشر ، يعني أنهم بعد موتهم يردون إلى الله . واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية ؛ لأن صريح هذه الآية يدل على كما يموت بنو ، ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله ، والميت مع كونه ميتا لا يمكن أن يرد إلى الله ؛ لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة ؛ لكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ، بل يجب أن يكون ذلك الرد مفسرا بكونه منقادا لحكم الله مطيعا لقضاء الله ، وما لم يكن حيا لم يصح هذا المعنى فيه ، فثبت أنه حصل ههنا موت وحياة ، أما الموت فنصيب البدن . فبقي أن تكون الحياة نصيبا للنفس والروح ؛ ولما قال تعالى : ( حصول الموت للعبد ثم ردوا إلى الله ) وثبت أن المردود هو النفس والروح ، ثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح ، وهو المطلوب .
واعلم أن قوله : ( ثم ردوا إلى الله ) مشعر بكون ؛ لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو أنها كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ، ونظيره قوله تعالى : ( الروح موجودة قبل البدن ارجعي إلى ربك ) [ الفجر : 28 ] وقوله : ( إليه مرجعكم جميعا ) [ يونس : 4 ] ونقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام وحجة الفلاسفة على إثبات أن النفوس البشرية غير موجودة قبل وجود البدن حجة ضعيفة بينا ضعفها في الكتب العقلية .
البحث الثاني : كلمة "إلى" تفيد انتهاء الغاية فقوله : "إلى الله" يشعر بإثبات المكان والجهة لله تعالى وذلك باطل ، فوجب حمله على أنهم ردوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه .
البحث الثالث : أنه تعالى سمى نفسه في هذه الآية باسمين :
أحدهما : ، وقد عرفت أن لفظ المولى ، ولفظ الولي مشتقان من الولي : أي القرب ، وهو سبحانه القريب البعيد الظاهر الباطن ؛ لقوله تعالى : ( المولى ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ق : 16] وقوله : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) [ المجادلة : 7 ] وأيضا المعتق يسمى بالمولى ، وذلك كالمشعر بأنه أعتقهم من العذاب ، وهو المراد من قوله : وأيضا أضاف نفسه إلى العبد فقال : ( سبقت رحمتي غضبي مولاهم الحق ) وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة ، [ ص: 16 ] وأيضا قال : " مولاهم الحق " والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) [ الجاثية : 23 ] فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة ، وانتقل إلى تصرفات المولى الحق .
والاسم الثاني : ، فقيل : الحق مصدر ، وهو نقيض الباطل ، وأسماء المصادر لا تجري على الفاعلين إلا مجازا كقولنا فلان عدل ورجاء وغياث وكرم وفضل ، ويمكن أن يقال : الحق هو الموجود ، وأحق الأشياء بالموجودية هو الله سبحانه لكونه واجبا لذاته ، فكان أحق الأشياء بكونه حقا هو هو ، واعلم أنه قرئ (الحق) بالنصب على المدح كقولك الحمد لله الحق . الحق ، واختلفوا هل هو من أسماء الله تعالى