أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وجعل الظلمات والنور ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ ( جعل ) يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وجعل الظلمات والنور ) وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=19وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) [ الزخرف : 19 ] والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التضمين والتصيير كإنشاء شيء من شيء ، وتصيير شيء شيئا ، ومنه : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=189وجعل منها زوجها ) [ الأعراف : 189 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=8وخلقناكم أزواجا ) [ النبأ : 8 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=5أجعل الآلهة إلها واحدا ) [ ص : 5 ] وإنما حسن لفظ الجعل ههنا ؛ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=31755_32440النور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر .
المسألة الثانية : في لفظ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الظلمات والنور ) قولان :
الأول : أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما ، وأيضا هذان الأمران إذا جعلا مقرونين بذكر السماوات والأرض ، فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان .
والثاني : نقل
الواحدي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وجعل الظلمات والنور ) أي : ظلمة الشرك والنفاق والكفر ، والنور يريد نور الإسلام والإيمان والنبوة واليقين . ونقل عن
الحسن أنه قال : يعني الكفر والإيمان ، ولا تفاوت بين هذين القولين ، فكان قول
الحسن كالتلخيص لقول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
ولقائل أن يقول : حمل اللفظ على الوجه الأول أولى ، لما ذكرنا أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ؛ ولأن الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقرونا بالسماوات والأرض لم يفهم منه إلا ما ذكرناه .
قال
الواحدي : والأولى حمل اللفظ عليهما معا ، وأقول هذا مشكل ؛ لأنه حمل للفظ على مجازه ، واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معا .
المسألة الثالثة : إنما قدم ذكر الظلمات على ذكر النور لأجل أن
nindex.php?page=treesubj&link=28910_28905_28900الظلمة عبارة عن عدم النور عن الجسم الذي من شأنه قبول النور ، وليست عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس إنسان بقرب السراج ، وجلس إنسان آخر بالبعد منه ، فإن البعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافيا مضيئا ، وأما القريب فإنه لا يرى البعيد ، ويرى ذلك الهواء مظلما ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية .
وإذ ثبت هذا فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها ، فالظلمة متقدمة في التقدير والتحقق على النور ، فوجب تقديمها في اللفظ ، ومما يقوي ذلك ما يروى في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره .
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول :
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28914_28900_32450لم ذكر الظلمات بصيغة الجمع ، والنور بصيغة الواحد ؟ فنقول : أما من حمل الظلمات على الكفر والنور على الإيمان ، فكلامه ههنا ظاهر ؛ لأن الحق واحد والباطل كثير ، وأما من حملها على الكيفية المحسوسة ، فالجواب : أن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ، ثم إنها تقبل التناقص قليلا قليلا ، وتلك المراتب كثيرة ، فلهذا السبب عبر عن الظلمات بصيغة الجمع .
[ ص: 126 ]
أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) فَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَفْظُ ( جَعَلَ ) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=19وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ) [ الزُّخْرُفِ : 19 ] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ ، وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّضْمِينِ وَالتَّصْيِيرِ كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ ، وَتَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا ، وَمِنْهُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=189وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) [ الْأَعْرَافِ : 189 ] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=8وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ) [ النَّبَأِ : 8 ] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=5أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) [ ص : 5 ] وَإِنَّمَا حَسُنَ لَفْظُ الْجَعْلِ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31755_32440النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَمَّا تَعَاقَبَا صَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْآخَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي لَفْظِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الْأَمْرَانِ الْمَحْسُوسَانِ بِحِسِّ الْبَصَرِ وَالَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا ، وَأَيْضًا هَذَانِ الْأَمْرَانِ إِذَا جُعِلَا مَقْرُونَيْنِ بِذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا إِلَّا هَاتَانِ الْكَيْفِيَّتَانِ الْمَحْسُوسَتَانِ .
وَالثَّانِي : نَقَلَ
الْوَاحِدِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) أَيْ : ظُلْمَةَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ ، وَالنُّورُ يُرِيدُ نُورَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْيَقِينِ . وَنُقِلَ عَنِ
الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : يَعْنِي الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ، فَكَانَ قَوْلُ
الْحَسَنِ كَالتَّلْخِيصِ لِقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ ؛ وَلِأَنَّ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ إِذَا كَانَ ذِكْرُهُمَا مَقْرُونًا بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ .
قَالَ
الْوَاحِدِيُّ : وَالْأَوْلَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مَعًا ، وَأَقُولُ هَذَا مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ لِلَّفْظِ عَلَى مَجَازِهِ ، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الظُّلُمَاتِ عَلَى ذِكْرِ النُّورِ لِأَجْلِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28910_28905_28900الظُّلْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ النُّورِ عَنِ الْجِسْمِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ قَبُولُ النُّورِ ، وَلَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ كَيْفِيَّةٍ وُجُودِيَّةٍ مُضَادَّةٍ لِلنُّورِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ إِنْسَانٌ بِقُرْبِ السِّرَاجِ ، وَجَلَسَ إِنْسَانٌ آخَرُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ ، فَإِنَّ الْبَعِيدَ يَرَى الْقَرِيبَ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ صَافِيًا مُضِيئًا ، وَأَمَّا الْقَرِيبُ فَإِنَّهُ لَا يَرَى الْبَعِيدَ ، وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُظْلِمًا ، فَلَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً لَكَانَتْ حَاصِلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الظُّلْمَةَ لَيْسَتْ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً .
وَإِذْ ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : عَدَمُ الْمُحْدَثَاتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِهَا ، فَالظُّلْمَةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّحَقُّقِ عَلَى النُّورِ ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا فِي اللَّفْظِ ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ مَا يُرْوَى فِي الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ :
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28914_28900_32450لِمَ ذَكَرَ الظُّلُمَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ، وَالنُّورَ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ ؟ فَنَقُولُ : أَمَّا مَنْ حَمَلَ الظُّلُمَاتِ عَلَى الْكُفْرِ وَالنُّورَ عَلَى الْإِيمَانِ ، فَكَلَامُهُ هَهُنَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْبَاطِلَ كَثِيرٌ ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَحْسُوسَةِ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّ النُّورَ عِبَارَةٌ عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْكَامِلَةِ الْقَوِيَّةِ ، ثُمَّ إِنَّهَا تَقْبَلُ التَّنَاقُصَ قَلِيلًا قَلِيلًا ، وَتِلْكَ الْمَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ عَبَّرَ عَنِ الظُّلُمَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ .
[ ص: 126 ]