[ ص: 118 ] ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) .
( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) .
اعلم أن الكلام المستقصى في قوله : ( الحمد لله ) قد سبق في تفسير سورة الفاتحة ، ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الفوائد ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الفرق بين المدح والحمد والشكر .
اعلم أن المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر .
أما بيان أن فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله ، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ولطافة خلقته ، ويمدح الياقوت على نهاية صفائه وصقالته ، فيقال : ما أحسنه وما أصفاه! ، وأما الحمد : فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان ، فثبت أن المدح أعم من الحمد . المدح أعم من الحمد
وأما بيان أن ، فلأن الحمد أعم من الشكر سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك ، وأما الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام وحصل عندك ، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد ، وهو أعم من الشكر . الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك
إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل المدح لله لأنا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار ، فقد يحصل لغيره . أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار . فكان قوله : ( الحمد لله ) تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة وليس علة موجبة له إيجاب العلة لمعلولها ، ولا شك أن هذه الفائدة عظيمة في الدين ، وإنما لم يقل الشكر لله ؛ لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة فحينئذ يكون المطلوب الأصلي له وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة ، فأما إذا قال : الحمد لله ، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه تعالى أوصل النعمة إليه ، فيكون الإخلاص أكمل ، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت .
المسألة الثانية : الحمد : لفظ مفرد محلى بالألف واللام فيفيد أصل الماهية .
[ ص: 119 ] إذا ثبت هذا فنقول : قوله : ( الحمد لله ) يفيد أن هذه الماهية لله ، وذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير الله ، فهذا يقتضي أن . جميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلا لله سبحانه
فإن قيل : إن شكر المنعم واجب ، مثل شكر الأستاذ على تعليمه ، وشكر السلطان على عدله ، وشكر المحسن على إحسانه ، كما قال عليه السلام : " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " .
قلنا : المحمود والمشكور في الحقيقة ليس إلا الله ، وبيانه من وجوه :
الأول : صدور الإحسان من العبد يتوقف على حصول داعية الإحسان في قلب العبد ، وحصول تلك الداعية في القلب ليس من العبد ، وإلا لافتقر في حصولها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل ، بل حصولها ليس إلا من الله سبحانه ، فتلك الداعية عند حصولها يجب الفعل وعند زوالها يمتنع الفعل ، فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلا الله ، فيكون المستحق لكل حمد في الحقيقة هو الله تعالى .
وثانيها : أن كل من أحسن من المخلوقين إلى الغير ، فإنه إنما يقدم على ذلك الإحسان إما لجلب منفعة أو دفع مضرة ، أما جلب المنفعة فإنه يطمع بواسطة ذلك الإحسان بما يصير سببا لحصول السرور في قلبه أو مكافأة بقليل أو كثير في الدنيا أو وجدان ثواب في الآخرة . وأما دفع المضرة فهو أن الإنسان إذا رأى حيوانا في ضر أو بلية فإنه يرق قلبه عليه ، وتلك الرقة ألم مخصوص يحصل في القلب عند مشاهدة وقوع ذلك الحيوان في تلك المضرة ، فإذا حاول إنقاذ ذلك الحيوان من تلك المضرة زالت تلك الرقة عن القلب وصار فارغ القلب طيب الوقت ، فذلك الإحسان كأنه سبب أفاد تخليص القلب عن ألم الرقة الحسية ، فثبت أن ، أما الحق سبحانه وتعالى فإنه يحسن ولا يستفيد منه جلب منفعة ولا دفع مضرة ، وكان المحسن الحقيقي ليس إلا الله تعالى ، فبهذا السبب كان المستحق لكل أقسام الحمد هو الله ، فقال : ( كل من سوى الحق فإنه يستفيد بفعل الإحسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة الحمد لله ) .
وثالثها : أن كل إحسان يقدم عليه أحد من الخلق فالانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله ، ألا ترى أنه لولا أن الله تعالى خلق أنواع النعمة وإلا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة والفواكه إلى الغير ، وأيضا فلولا أنه سبحانه أعطى الإنسان الحواس الخمس التي بها يمكنه الانتفاع بتلك النعم وإلا لعجز عن الانتفاع بها . ولولا أنه سبحانه أعطاه المزاج الصحيح والبنية السليمة وإلا لما أمكنه الانتفاع بها ، فثبت أن . وعند هذا يظهر أنه لا محسن في الحقيقة إلا الله ، ولا مستحق للحمد إلا الله ، فلهذا قال : ( كل إحسان يصدر عن محسن سوى الله تعالى ، فإن الانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله تعالى الحمد لله ) .
ورابعها : أن الانتفاع بجميع النعم لا يمكن إلا بعد وجود المنتفع بعد كونه حيا قادرا عالما ، ونعمة الوجود والحياة والقدرة والعلم ليست إلا من الله سبحانه ، والتربية الأصلية والأرزاق المختلفة لا تحصل إلا من الله سبحانه من أول الطفولية إلى آخر العمر . ثم إذا تأمل الإنسان في آثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان ووصل إلى ما أودع الله تعالى في أعضائه من أنواع المنافع والمصالح ، علم أنها بحر لا ساحل له ، كما قال تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [إبراهيم : 34] فبتقدير أن نسلم أن العبد يمكنه أن ينعم على الغير ، إلا أن نعم العبد كالقطرة ، ، فلهذا السبب كان المستحق للحمد المطلق والثناء المطلق ليس إلا الله سبحانه ، فلهذا قال : ( ونعم الله لا نهاية لها أولا وآخرا وظاهرا وباطنا الحمد لله ) .