( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) .
ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) . قوله تعالى : (
المسألة الأولى : في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :
الأول : أنه تعالى لما قال : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) صار التقدير كأنه قال : ما بلغه الرسول إليكم فخذوه وكونوا منقادين له ، وما لم يبلغه الرسول إليكم [ ص: 87 ] فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه ، فإنكم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم .
الثاني : أنه تعالى لما قال : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) وهذا ادعاء منه للرسالة ، ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات ، بمعجزات أخر على سبيل التعنت ، كما قال تعالى حاكيا عنهم : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [الإسراء : 90] إلى قوله : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) [الإسراء : 93] والمعنى أني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام إليكم ، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات ، فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي ، ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا ، ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه المعجزات ، وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم .
الوجه الثالث : أن هذا متصل بقوله : ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخيفة إن تبد لكم تسؤكم .
المسألة الثانية : ( أشياء ) جمع شيء ، وإنها غير منصرفة ، وللنحويين في سبب امتناع الصرف وجوه :
الأول : قال الخليل : قولنا : شيء ، جمعه في الأصل شيآء ، على وزن فعلاء ، فاستثقلوا اجتماع الهمزتين في آخره ، فنقلوا الهمزة الأولى التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فجاءت : لفعاء ، وذلك يوجب منع الصرف لثلاثة أوجه ، واحد منها مذكور ، واثنان خطرا ببالي : وسيبويه
أما الأول : وهو المذكور ; فهو أن الكلمة لما كانت في الأصل على وزن فعلاء ، مثل حمراء ، لا جرم لم تنصرف حمراء . 50 والثاني : أنها لما كانت في الأصل ( شيآء ) ثم جعلت ( أشياء ) كان ذلك تشبيها بالمعدول كما في عامر وعمر ، وزافر وزفر ، والعدل أحد أسباب منع الصرف .
الثالث : وهو أنا لما قطعنا الحرف الأخير منه وجعلناه أوله ، والكلمة من حيث إنها قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف الكلمة ، ونصف الكلمة لا يقبل الإعراب ، ومن حيث إن ذلك الحرف الذي قطعناه منها ما حذفناه بالكلية ، بل ألصقناه بأولها ، كانت الكلمة كأنها باقية بتمامها ، فلا جرم منعناه بعض وجوه الإعراب دون البعض ، تنبيها على هذه الحالة ، فهذا ما خطر بالبال في هذا المقام .
الوجه الثاني في بيان السبب في منع الصرف : ما ذكره الأخفش والفراء وهو أن (أشياء) وزنه أفعلاء ، كقوله أصدقاء وأصفياء ، ثم إنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فقدموا الهمزة ، فلما كان (أشياء) في الأصل (أشيياء) على وزن أصدقاء وأفعلاء ، وكان ذلك مما لا يجري فيه الصرف ، فكذا هاهنا .
الوجه الثالث : ما ذكره الكسائي وهو أن (أشياء) على وزن أفعال ، إلا أنهم لم يصرفوه لكونه شبيها في الظاهر بحمراء وصفراء ، وألزمه الزجاج أن لا ينصرف أسماء وأبناء ، وعندي أن سؤال الزجاج ليس بشيء ؛ لأن للكسائي أن يقول : القياس يقتضي ذلك في أبناء وأسماء ، إلا أنه ترك العمل به للنص ؛ لأن النص أقوى من القياس ، ولم يوجد النص في لفظ أشياء فوجب الجري فيه على القياس ، ولأن المحققين من النحويين اتفقوا على أن العلل النحوية لا توجب الاطراد ، ألا ترى أنا إذا قلنا : الفاعلية توجب الرفع ، لزمنا أن نحكم [ ص: 88 ] بحصول الرفع في جميع المواضع ، كقولنا جاءني هؤلاء وضربني هذا ; بل نقول : القياس ذلك ، فيعمل به إلا إذا عارضه نص ، فكذا القول فيما أورده الزجاج على الكسائي .
المسألة الثالثة : أنس أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكثروا المسألة ، فقام على المنبر فقال : سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به ، فقام وكان يطعن في نسبه ، فقال : يا نبي الله من أبي ؟ فقال : أبوك عبد الله بن حذافة السهمي حذافة بن قيس ، وقال سراقة بن مالك - ويروى - يا رسول الله ، الحج علينا في كل عام ؟ فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أعاد مرتين أو ثلاثة ، فقال عليه الصلاة والسلام : "ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لتركتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " وقام آخر فقال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ فقال : "في النار " ولما اشتد غضب الرسول - صلى الله عليه وسلم - قام عكاشة بن محصن عمر وقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . روى
واعلم أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتبت عليه تكاليف شاقة صعبة ، فالأولى بالعاقل أن يسكت عما لا تكليف عليه فيه ، ألا ترى أن الذي سأل عن أبيه فإنه لم يأمن أن يلحقه الرسول عليه الصلاة والسلام بغير أبيه فيفتضح ، وأما السائل عن الحج فقد كاد أن يكون ممن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه : " أعظم المسلمين في المسلمين جرما من كان سببا لتحريم حلال " إذ لم يؤمن أن يقول في الحج إيجاب في كل عام . وكان إن يقول : إن الله أحل وحرم ، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه ، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها ، فذلك عفو من الله تعالى ، ثم يتلو هذه الآية . وقال عبيد بن عمير : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها . أبو ثعلبة الخشني