قوله تعالى : ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل )
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا على أباطيل اليهود ، ثم تكلم ثانيا على النصارى وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها ، فعند ذلك خاطب مجموع الفريقين بهذا الخطاب فقال : ( أباطيل قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) والغلو نقيض التقصير ، ومعناه الخروج عن الحد ; وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ودين الله بين الغلو والتقصير ، وقوله : ( غير الحق ) صفة المصدر ، أي لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق ، أي غلوا باطلا ، لأن نوعان : غلو حق ، وهو أن يبالغ في تقريره وتأكيده ، وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه وإخفاء الدلائل ، وذلك الغلو هو الغلو في الدين اليهود لعنهم الله نسبوه إلى الزنا ، وإلى أنه كذاب ، والنصارى ادعوا فيه الإلهية . أن
ثم قال تعالى : ( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الأهواء ههنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة ، قال : الشعبي ، قال : ( ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) [ص : 26] ، ( واتبع هواه فتردى ) [طه : 16] ، ( وما ينطق عن الهوى ) [النجم : 3] ، ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) [الجاثية : 23] قال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر ، لا يقال : فلان يهوى الخير ، إنما يقال : يريد الخير ويحبه ، وقال بعضهم : الهوى إله يعبد من دون الله ، وقيل : سمي الهوى هوى ; لأنه يهوي بصاحبه في النار ، وأنشد في ذم الهوى :
إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال رجل : الحمد لله الذي جعل هواي على هواك ، فقال لابن عباس : كل هوى ضلالة . ابن عباس
المسألة الثانية : أنه تعالى ، فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم ، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى إنهم الآن ضالون كما كانوا ، ولا نجد حالة أقرب إلى العبد من الله والقرب من عقاب الله تعالى من هذه الحالة ، نعوذ بالله منها ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ، ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق ، ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الأول الضلال عن الدين ، وبالضلال الثاني الضلال عن طريق الجنة . وصفهم بثلاث درجات في الضلال