أما الأحكام المفرعة على كونه مالكا فهي أربعة :
الحكم الأول : ؛ لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأسا برأس ، أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول : أنا مالككم فعلي طعامكم وثوابكم وجنتكم . قراءة المالك أرجى من قراءة الملك
الحكم الثاني : الملك وإن كان أغنى من المالك غير أن الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه ، وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات ، بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل ، فلهذا السبب قال الكسائي : اقرأ " مالك يوم الدين " ؛ لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة .
الحكم الثالث : أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج ، أما من كان مريضا فإنه يرده ولا يعطيه شيئا من الواجب ، أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه ، فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين .
الحكم الرابع : الملك له هيبة وسياسة ، والمالك له رأفة ورحمة ، واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة .
الفائدة الثالثة : الملك عبارة عن القدرة ، فكونه مالكا وملكا عبارة عن القدرة ، ههنا بحث : وهو أنه تعالى إما أن يكون ملكا للموجودات أو للمعدومات ، والأول باطل ، لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة لله على الموجودات إلا بالإعدام ، وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم ، والثاني باطل أيضا ؛ لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال : إنه ليس لله في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد .
والجواب أن ، بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم ، أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة ، وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى ، فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى ، إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول : إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله ، والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله ، فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله ، وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر . الله تعالى مالك الموجودات وملكها
فإن قيل : إن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان المملوك موجودا ، والقيامة غير موجودة في الحال ، فلا يكون الله مالكا ليوم الدين ، بل الواجب أن يقال : مالك يوم الدين ، بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد ، فهذا إقرار ، ولو قال أنا قاتل زيدا بالتنوين كان تهديدا ووعيدا .
قلنا : الحق ما ذكرتم ، إلا أن قيام القيامة لما كان أمرا حقا لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود [ ص: 196 ] القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال ، وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال .
الفائدة الرابعة : أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة : الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، والمالك . والسبب فيه كأنه يقول : خلقتك أولا فأنا إله ، ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب ، ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ، ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم ، ثم لا بد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين .
فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة وفي السورة مرة ثانية ، فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة ؟ .
قلنا : التقدير كأنه قيل : اذكر أني إله ورب مرة واحدة ، واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى : ( غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ) [ غافر : 3 ] .
الفائدة الخامسة : قالت القدرية : إن كان هو الله امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء ؛ لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث ، وعقابه على ما لم يعمله ظلم ، وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكا ليوم الدين ، وقالت خالق أعمال العباد الجبرية : لو لم تكن أعمال العباد بتقدير الله وترجيحه لم يكن مالكا لها ، ولما أجمع المسلمون على كونه مالكا للعباد ولأعمالهم ؛ علمنا أنه خالق لها مقدر لها والله أعلم .