الفصل الثالث
في تفسير قوله : الرحمن الرحيم ، وفيه فوائد
الفائدة الأولى : ، الرحمن : هو المنعم بما لا يتصور صدور جنسه من العباد ، حكي عن والرحيم : هو المنعم بما يتصور جنسه من العباد أنه قال : كنت ضيفا لبعض القوم ، فقدم المائدة ، فنزل غراب وسلب رغيفا ، فاتبعته تعجبا ، فنزل في بعض التلال ، وإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين ، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه . إبراهيم بن أدهم
وروي عن ذي النون أنه قال : كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي ، وصرت بحيث ما ملكت نفسي ، فخرجت من البيت وانتهيت إلى شط النيل ، فرأيت عقربا قويا يعدو فتبعته ، فوصل إلى طرف النيل ، فرأيت ضفدعا واقفا على طرف الوادي ، فوثب العقرب على ظهر الضفدع وأخذ الضفدع يسبح ويذهب ، فركبت السفينة وتبعته فوصل الضفدع إلى الطرف الآخر من النيل ، ونزل العقرب من ظهره ، وأخذ يعدو فتبعته ، فرأيت شابا نائما تحت شجرة ، ورأيت أفعى يقصده ، فلما قربت الأفعى من ذلك الشاب وصل العقرب إلى الأفعى ، فوثب العقرب على الأفعى فلدغه ، والأفعى أيضا لدغ العقرب ، فماتا معا ، وسلم الإنسان منهما . ويحكى أن ولد الغراب كما يخرج من قشر البيضة يخرج من غير ريش فيكون كأنه قطعة لحم أحمر ، والغراب يفر منه ولا يقوم بتربيته ، ثم إن البعوض يجتمع عليه لأنه يشبه قطعة لحم ميت ، فإذا وصلت البعوض إليه التقم تلك البعوض واغتذى بها ، ولا يزال على هذه الحال إلى أن يقوى وينبت ريشه ويخفى لحمه تحت ريشه ، فعند ذلك تعود أمه إليه ، ولهذا السبب جاء في أدعية العرب : يا رزاق النعاب في عشه ، فظهر بهذه الأمثلة أن . فضل الله عام ، وإحسانه شامل ، ورحمته واسعة
[ ص: 190 ] واعلم أن الحوادث على قسمين : منه ما يظن أنه رحمة مع أنه لا يكون كذلك ، بل يكون في الحقيقة عذابا ونقمة ، ومنه ما يظن في الظاهر أنه عذاب ونقمة ، مع أنه يكون في الحقيقة فضلا وإحسانا ورحمة . أما القسم الأول : فالوالد إذا أهمل ولده حتى يفعل ما يشاء ولا يؤدبه ولا يحمله على التعلم ، فهذا في الظاهر رحمة وفي الباطن نقمة . وأما القسم الثاني كالوالد إذا حبس ولده في المكتب وحمله على التعلم فهذا في الظاهر نقمة ، وفي الحقيقة رحمة ، وكذلك الإنسان إذا وقع في يده الآكلة فإذا قطعت تلك اليد فهذا في الظاهر عذاب ، وفي الباطن راحة ورحمة ، فالأبله يغتر بالظواهر ، والعاقل ينظر في السرائر .
إذا عرفت هذا فكل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذابا وألما في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة ، وتحقيقه ما قيل في الحكمة : إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير ، تطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية كما قال تعالى : ( فالمقصود من التكاليف إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ) [ الإسراء : 7 ] صرف الأشرار إلى أعمال الأبرار ، وجذبها من دار الفرار إلى دار القرار ، كما قال تعالى : ( والمقصود من خلق النار ففروا إلى الله ) [ الذاريات : 50 ] وأقرب مثال لهذا الباب قصة موسى والخضر عليهما السلام ، فإن موسى كان يبني فاستنكر تخريق السفينة وقتل الغلام وعمارة الجدار المائل ، وأما الحكم عن ظواهر الأمور الخضر فإنه كان يبني أحكامه على الحقائق والأسرار فقال : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ) [ الكهف : 79 82 ] فظهر بهذه القصة أن الحكيم المحقق هو الذي يبني أمره على الحقائق لا على الظاهر ، فإذا رأيت ما يكرهه طبعك وينفر عنه عقلك فاعلم أن تحته أسرارا خفية وحكما بالغة ، وأن حكمته ورحمته اقتضت ذلك ، وعند ذلك يظهر لك أثر من بحار أسرار قوله : ( الرحمن الرحيم ) .
الفائدة الثانية : الرحمن : اسم خاص بالله ، والرحيم : ينطلق عليه وعلى غيره .
فإن قيل : فعلى هذا الرحمن أعظم ، فلم ذكر الأدنى بعد ذكر الأعلى ؟
والجواب : لأن الكبير العظيم لا يطلب منه الشيء الحقير اليسير ، حكي أن بعضهم ذهب إلى بعض الأكابر ، فقال : جئتك لمهم يسير ، فقال : اطلب للمهم اليسير رجلا يسيرا . كأنه تعالى يقول : لو اقتصرت على ذكر الرحمن لاحتشمت عني ولتعذر عليك سؤال الأمور اليسيرة ، ولكن كما علمتني رحمانا تطلب مني الأمور العظيمة ، فأنا أيضا رحيم ؛ فاطلب مني شراك نعلك وملح قدرك ، كما قال تعالى لموسى : " يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك " .
الفائدة الثالثة : وصف نفسه بكونه رحمانا رحيما ، ثم إنه أعطى مريم عليها السلام رحمة واحدة حيث قال : ( ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ) [ مريم : 21 ] فتلك الرحمة صارت سببا لنجاتها من توبيخ الكفار الفجار ، ثم إنا نصفه كل يوم أربعة وثلاثين مرة أنه رحمن وأنه رحيم ، وذلك لأن الصلوات سبع عشرة ركعة ، ويقرأ لفظ " الرحمن الرحيم " في كل ركعة مرتين ، مرة في " بسم الله الرحمن الرحيم " ومرة في قوله : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ) فلما صار ذكر الرحمة مرة واحدة سببا لخلاص مريم عليها السلام عن [ ص: 191 ] المكروهات أفلا يصير ذكر الرحمة هذه المرات الكثيرة طول العمر سببا لنجاة المسلمين من النار والعار والدمار ؟
الفائدة الرابعة : أنه تعالى رحمن لأنه يخلق ما لا يقدر العبد عليه ، رحيم لأنه يفعل ما لا يقدر العبد على جنسه ، فكأنه تعالى يقول : أنا رحمن لأنك تسلم إلي نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة ، كما قال تعالى : ( وصوركم فأحسن صوركم ) [ غافر : 64 ] وأنا رحيم لأنك تسلم إلي طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة .
الفائدة الخامسة : روي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه به ، فقام ودخل عليه ، وجعل يعرض عليه الشهادة وهو يتحرك ويضطرب ولا يعمل لسانه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما كان يصلي ؟ أما كان يصوم ؟ أما كان يزكي ؟ فقالوا : بلى ، فقال : هل عق والديه ؟ فقالوا : بلى ، فقال عليه السلام : هاتوا بأمه ، فجاءت وهي عجوز عوراء ، فقال عليه السلام : هلا عفوت عنه ، فقالت : لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني ، فقال عليه السلام : هاتوا بالحطب والنار ، فقالت : وما تصنع بالنار ؟ فقال عليه السلام : أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل بك ، فقالت : عفوت عفوت ، أللنار حملته تسعة أشهر ؟ أللنار أرضعته سنتين ؟ فأين رحمة الأم ؟ فعند ذلك انطلق لسانه ، وذكر أشهد أن لا إله إلا الله . والنكتة أنها كانت رحيمة ، وما كانت رحمانة فلأجل ذلك القدر القليل من الرحمة ما جوزت الإحراق بالنار ، فالرحمن الرحيم الذي لم يتضرر بجنايات عبيده مع عنايته بعباده كيف يستجيز أن يحرق المؤمن الذي واظب على شهادة أن لا إله إلا الله سبعين سنة بالنار ؟
الفائدة السادسة : لقد اشتهر أن اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، فظهر أنه يوم القيامة يقول : أمتي ، أمتي ، فهذا كرم عظيم منه في الدنيا وفي الآخرة ، وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة كما قال تعالى : ( النبي عليه السلام لما كسرت رباعيته قال : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] فإن كان أثر الرحمة الواحدة هذا المبلغ ، فكيف كرم من هو رحمن رحيم ؟ وأيضا روي أنه عليه السلام قال : اللهم اجعل حساب أمتي على يدي ، ثم إنه امتنع عن الصلاة على الميت لأجل أنه كان مديونا بدرهمين ، وأخرج عن البيت بسبب الإفك ، فكأنه تعالى قال له : إن لك رحمة واحدة وهي قوله : ( عائشة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] والرحمة الواحدة لا تكفي في إصلاح المخلوقات ، فذرني وعبيدي واتركني وأمتك ، فإني أنا الرحمن الرحيم ، فرحمتي لا نهاية لها ، ومعصيتهم متناهية ، والمتناهي في جنب غير المتناهي يصير فانيا ، فلا جرم معاصي جميع الخلق تفنى في بحار رحمتي ، لأني أنا الرحمن الرحيم .
الفائدة السابعة : القدرية : كيف يكون رحمانا رحيما من خلق الخلق للنار ولعذاب الأبد ؟ وكيف يكون رحمانا رحيما من يخلق الكفر في الكافر ويعذبه عليه ؟ وكيف يكون رحمانا رحيما من أمر بالإيمان ثم صد ومنع عنه ؟ وقالت قالت الجبرية : أعظم أنواع النعمة والرحمة هو الإيمان ، فلو لم يكن الإيمان من الله بل كان من العبد لكان اسم الرحمن الرحيم بالعبد أولى منه بالله ، والله أعلم .