ثم قال تعالى : ( سماعون للكذب أكالون للسحت ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : السحت بضم السين والحاء حيث كان ، وقرأ قرأ ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة برفع السين وسكون الحاء على لفظ المصدر من : سحته ، ونقل صاحب "الكشاف" السحت بفتحتين ، والسحت بكسر السين وسكون الحاء ، وكلها لغات .
المسألة الثانية : قال ذكروا في لفظ السحت وجوها الزجاج : أصله من سحته إذا استأصله ، قال تعالى : ( فيسحتكم بعذاب ) ( طه : 61 ) وسميت الرشا التي كانوا يأخذونها بالسحت إما لأن الله تعالى يسحتهم بعذاب ، أي يستأصلهم ، أو لأنه مسحوت البركة ، قال تعالى : ( يمحق الله الربا ) ( البقرة : 276 ) .
الثاني : قال الليث : إنه حرام يحصل منه العار ، وهذا قريب من الوجه الأول ؛ لأن مثل هذا الشيء يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها .
والثالث : قال الفراء : أصل السحت شدة الجوع ، يقال رجل مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يلقى إلا جائعا أبدا ، فالسحت حرام يحمل عليه شدة الشره كشره من كان مسحوت المعدة ، وهذا أيضا قريب من الأول ؛ لأن من كان شديد الجوع شديد الشره فكأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام ويشتهيه .
إذا عرفت هذا فنقول : السحت : الرشوة في الحكم ، ومهر البغي ، وعسب الفحل ، وكسب الحجام ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، وثمن الميتة ، وحلوان الكاهن ، والاستئجار في المعصية : روي ذاك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ، وزاد بعضهم ، ونقص بعضهم ، وأصله يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ، ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة ، ومعلوم أن ومجاهد كذلك ، فكان سحتا لا محالة . أخذ الرشوة
المسألة الثالثة : في سماعون للكذب أكالون للسحت ) وجوه : قوله : (
الأول : قال الحسن كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه ، فكان يسمع الكذب ويأكل السحت .
الثاني : قال بعضهم : كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية ، فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت الذي يأخذونه منهم .
الثالث : سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة ، أكالون للربا ؛ لقوله تعالى : ( وأخذهم الربا ) ( النساء : 161 ) .
ثم قال تعالى : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) ثم إنه تعالى خيره بين الحكم فيهم [ ص: 186 ] والإعراض عنهم ، واختلفوا فيه على قولين :
الأول : أنه في أمر خاص ، ثم اختلف هؤلاء ، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد : إنه في زنا المحصن وأن حده هو الجلد والرجم . والزهري
الثاني : أنه في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير ، وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم دية كاملة ، وفي قريظة نصف دية ، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء .
الثالث : أن هذا التخيير مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم ، فإن شاء حكم فيهم وإن شاء أعرض عنهم .
القول الثاني : أن الآية عامة في كل من جاءه الكفار ، ثم اختلفوا فمنهم من قال الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ ، وهو قول والشعبي النخعي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم ، ومنهم من قال : إنه منسوخ بقوله تعالى : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ( المائدة : 49 ) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة . ومذهب أنه الشافعي ؛ لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم ، فأما يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه بل يتخير في ذلك ، وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين . المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم
ثم قال تعالى : ( وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ) والمعنى : أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف ، كالجلد مكان الرجم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له ، فبين تعالى أنه لا تضره عداوتهم له .
ثم قال تعالى : ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) .
أي فاحكم بينهم بالعدل والاحتياط كما حكمت بالرجم .