ثم قال تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أنه إذا فهو حلال ، وجرح الجارحة كالذبح ، وكذا الحكم في سائر الجوارح المعلمة . وكذا في السهم والرمح ، أما إذا كان الكلب معلما ثم صاد صيدا وجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتا فقال بعضهم : لا يجوز أكله لأنه ميتة . وقال آخرون : يحل لدخوله تحت قوله : ( صاده الكلب فجثم عليه وقتله بالفم من غير جرح فكلوا مما أمسكن عليكم ) وهذا كله إذا لم يأكل ، فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء ، فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي أنه لا يحل ، وهو أظهر أقوال ، قالوا : لأنه أمسك الصيد على نفسه ، والآية دلت على أنه إنما يحل إذا أمسكه على صاحبه ، ويدل عليه أيضا ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الشافعي : " لعدي بن حاتم " وقال إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه ، وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك ، وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر - رضي الله عنهم - : إنه يحل وإن أكل ، وهو القول الثاني وأبو هريرة - رحمه الله - . واختلفوا في للشافعي ، فقال قائلون : إنه لا فرق بينه وبين الكلب ، فإن أكل شيئا من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن البازي إذا أكل - رضي الله عنه - . وقال علي بن أبي طالب سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني : يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب ، الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ، ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل .
المسألة الثانية : " من " في قوله : ( مما أمسكن ) فيه وجهان :
الأول : أنه صلة زائدة كقوله : ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) [الأنعام : 141] .
والثاني : أنه للتبعيض ، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان :
الأول : أن الصيد كله لا يؤكل ؛ فإن لحمه يؤكل ، أما عظمه ودمه وريشه فلا يؤكل .
الثاني : أن المعنى كلوا مما تبقي لكم الجوارح بعد أكلها منه ، قالوا : فالآية دالة على أن كانت البقية حلالا ، قالوا وإن أكله من الصيد لا يقدح في أنه أمسكه على صاحبه لأن صفة الإمساك هو أن يأخذ الصيد ولا يتركه حتى يذهب ، وهذا المعنى حاصل سواء أكل منه أو لم يأكل منه . الكلب إذا أكل من الصيد
ثم قال تعالى : ( واذكروا اسم الله عليه ) وفيه أقوال :
الأول : أن المعنى : سم الله إذا أرسلت كلبك . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فكل أرسلت كلبك وذكرت اسم الله " وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله : ( عليه ) عائد إلى ( إذا وما علمتم من الجوارح ) أي : سموا عليه عند إرساله .
[ ص: 115 ]
القول الثاني : الضمير عائد إلى ما أمسكن ، يعني سموا عليه إذا أدركتم ذكاته .
الثالث : أن يكون الضمير عائدا إلى الأكل ، يعني واذكروا اسم الله على الأكل . روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر بن أبي سلمة : " " . سم الله وكل مما يليك
واعلم أن مذهب - رحمه الله - أن الشافعي يحل أكله ، فإن حملنا هذه الآية على الوجه الثالث فلا كلام ، وإن حملناه على الأول والثاني كان المراد من الأمر الندب توفيقا بينه وبين النصوص الدالة على حله ، وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى في تفسير قوله : ( متروك التسمية عامدا ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) [الأنعام : 121] .
ثم قال تعالى : ( واتقوا الله إن الله سريع الحساب ) أي : واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما أحله وتحريم ما حرمه .