( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما )
واعلم أنه تعالى لما وصف طريقة الكفار والجهال من اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم فقال : ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) .
[ ص: 84 ]
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المراد من ذلك وأصحابه عبد الله بن سلام ، وهم في الحقيقة المستدلون بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك ، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة ، فالراسخون هم المستدلون والمؤمنون ، يعني المؤمنين منهم أو المؤمنين من الراسخون في العلم الثابتون فيه المهاجرين والأنصار وارتفع الراسخون على الابتداء و ( يؤمنون ) خبره ، وأما قوله : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ففيه أقوال :
الأول : روي عن عثمان أنهما قالا : إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها . وعائشة
واعلم أن هذا بعيد لأن هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه .
الثاني : وهو قول البصريين : إنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، قالوا : إذا قلت : مررت بزيد الكريم ، فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد ، ولك أن تنصبه على تقدير أعني ، وإن شئت رفعت على تقدير هو الكريم ، وعلى هذا يقال : جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد ، والتقدير جاءني قومك أعني المطعمين في المحل وهم المغيثون في الشدائد فكذا ههنا تقدير الآية : أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة ، طعن الكسائي في هذا القول وقال : النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام ، وههنا لم يتم الكلام ، لأن قوله : ( لكن الراسخون في العلم ) منتظر للخبر ، والخبر هو قوله : ( أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) .
والجواب : لا نسلم أن الكلام لا يتم إلا عند قوله : ( أولئك ) لأنا بينا أن الخبر هو قوله : ( يؤمنون ) وأيضا لم لا يجوز الاعتراض بالمدح بين الاسم والخبر ؛ وما الدليل على امتناعه ؟ فهذا القول هو المعتمد في هذه الآية .
والقول الثالث : وهو اختيار الكسائي ، وهو أن المقيمين خفض بالعطف على ( ما ) في قوله : ( بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) والمعنى : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالمقيمين الصلاة ، ثم عطف على قوله : ( والمؤمنون ) قوله : ( والمؤتون الزكاة ) والمراد بالمقيمين الصلاة الأنبياء ، وذلك لأنه لم يخل شرع أحد منهم من الصلاة . قال تعالى في سورة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بعد أن ذكر أعدادا منهم ( وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة ) [الأنبياء : 73] وقيل : المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم الصافون وهم المسبحون وأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فقوله : ( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) يعني : يؤمنون بالكتب ، وقوله : ( والمقيمين الصلاة ) يؤمنون بالرسل .
الرابع : جاء في مصحف " والمقيمون الصلاة " بالواو ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي .
المسألة الثانية : اعلم أن : العلماء على ثلاثة أقسام
الأول : العلماء بأحكام الله تعالى فقط .
والثاني : العلماء بذات الله وصفات الله فقط .
والثالث : العلماء بأحكام الله وبذات الله ، أما الفريق الأول فهم العالمون بأحكام الله وتكاليفه وشرائعه .
وأما الثاني : فهم العالمون بذات الله وبصفاته الواجبة والجائزة والممتنعة .
وأما الثالث : فهم الموصوفون بالعاملين وهم أكابر العلماء ، وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء " . وإذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى وصفهم [ ص: 85 ] بكونهم راسخين في العلم ، ثم شرح ذلك فبين أولا : كونهم عالمين بأحكام الله تعالى ، وعاملين بتلك الأحكام ، فأما علمهم بأحكام الله فهو المراد من قوله : ( والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) وأما عملهم بتلك الأحكام فهو المراد بقوله : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) وخصهما بالذكر لكونهما أشرف الطاعات لأن ، الصلاة أشرف الطاعات البدنية ، ولما شرح كونهم عالمين بأحكام الله وعاملين بها شرح بعد ذلك كونهم عالمين بالله ، والزكاة أشرف الطاعات المالية ، فالعلم بالمبدأ هو المراد بقوله : ( وأشرف المعارف العلم بالمبدأ والمعاد والمؤمنون بالله ) والعلم بالمعاد هو المراد من قوله : ( واليوم الآخر ) ولما شرح هذه الأقسام ظهر كون هؤلاء المذكورين عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بها ، وظهر كونهم عالمين بالله وبأحوال المعاد ، وإذا حصلت هذه العلوم والمعارف ظهر كونهم راسخين في العلم لأن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز هذا المقام في الكمال وعلو الدرجة ، ثم أخبر عنهم بقوله : ( أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) .