قوله تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) .
واعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضى من القول ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي -رحمه الله- : النجوى في اللغة : سر بين اثنين ، يقال : ناجيت الرجل مناجاة ونجاء ، ويقال : نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى : ناجيته ، والنجوى : قد تكون مصدرا بمنزلة المناجاة ، قال تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) [المجادلة : 7] . وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون ، قال تعالى : ( وإذ هم نجوى ) [الإسراء : 47] .
المسألة الثانية : إلا من أمر بصدقة ) ذكر النحويون في محل " من " وجوها ، وتلك الوجوه مبنية على معنى النجوى في هذه الآية ، فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب ؛ لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه ، فيكون نصبا كقوله : ( قوله : ( إلا أذى ) [آل عمران : 111] . ويجوز أن يكون رفعا في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس ، كقوله :
إلا اليعافير وإلا العيس
وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال : التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ، ثم حذف المضاف ، وعلى هذا التقدير يكون " من " في محل النجوى ؛ لأنه أقيم مقامه ، ويجوز فيه وجهان :أحدهما : الخفض بدل من نجواهم ، كما تقول : ما مررت بأحد إلا زيد .
والثاني : النصب على الاستثناء ، كما تقول : ما جاءني أحد إلا زيدا ، وهذا استثناء الجنس من الجنس ، وأما إن جعلنا النجوى اسما للقوم المتناجين كان منصوبا على الاستثناء ؛ لأنه استثناء الجنس من الجنس ، ويجوز أن يكون " من " في محل الخفض من وجهين :
أحدهما : أن تجعله تبعا لكثير ، على معنى : لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة ، كقولك : لا خير في القوم إلا نفر منهم .
والثاني : أن تجعله تبعا للنجوى ، كما تقول : لا خير في جماعة من القوم إلا زيد ، إن شئت أتبعت زيدا الجماعة ، وإن شئت أتبعته القوم ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة ، والمراد : . ثم إنه تعالى ذكر لا خير فيما يتناجى فيه الناس ، ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير : الأمر بالصدقة ، والأمر بالمعروف ، والإصلاح بين الناس ، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة ؛ وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، أما إيصال الخير ؛ فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله : ( من أعمال الخير ثلاثة أنواع إلا من أمر بصدقة ) وإما أن يكون من الخيرات الروحانية ، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف ، وإليه الإشارة بقوله : ( أو معروف ) .
وأما إزالة الضرر فإليها [ ص: 34 ] الإشارة بقوله : ( أو إصلاح بين الناس ) فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية ، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام : . " كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر أو ذكر لله "
وقيل : ما أشد هذا الحديث ، فقال لسفيان الثوري سفيان : ألم تسمع الله يقول : ( لا خير في كثير من نجواهم ) . فهو هذا بعينه ، أما سمعت الله يقول : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [العصر : 1 ] فهو هذا بعينه .
ثم قال تعالى : ( ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) والمعنى : أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة ، إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى بها لوجه الله ، ولطلب مرضاته ، فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية ، فصارت من أعظم المفاسد ؛ وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية ، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) [البينة : 5] وقوله : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) [النجم : 39] ، وقوله عليه الصلاة والسلام : وههنا سؤالان : "إنما الأعمال بالنيات"
السؤال الأول : ابتغاء مرضاة الله " ؟ . لم انتصب "
والجواب : لأنه مفعول له ، والمعنى : لأنه لابتغاء مرضاة الله .
السؤال الثاني : إلا من أمر ) ، ثم قال : ( ومن يفعل ذلك ) ؟ . كيف قال : (
والجواب : أنه ذكر الأمر بالخير ؛ ليدل به على فاعله ؛ لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين ، فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى ، ويجوز أن يراد : ومن يأمر بذلك ، فعبر عن الأمر بالفعل ؛ لأن الأمر أيضا فعل من الأفعال .