الباب الأول
اعلم أن هذه السورة لها أسماء كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى :
فالأول : " فاتحة الكتاب " سميت بذلك الاسم لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم ، والقراءة في الصلاة ، وقيل سميت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كلام على ما سيأتي تقريره ، وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء .
والثاني : " سورة الحمد " والسبب فيه أن أولها لفظ الحمد .
والثالث : " أم القرآن " والسبب فيه وجوه : -
الأول : أن أم الشيء أصله ، : الإلهيات ، والمعاد ، والنبوات ، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى ، فقوله : ( والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ) يدل على الإلهيات ، وقوله : ( مالك يوم الدين ) يدل على المعاد ، وقوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) يدل على نفي الجبر والقدر ، وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره ، وقوله : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يدل أيضا على إثبات قضاء الله وقدره وعلى النبوات ، [ ص: 145 ] وسيأتي شرح هذه المعاني بالاستقصاء ، فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة ، وكانت هذه السورة مشتملة عليها - لقبت بأم القرآن .
السبب الثاني لهذا الاسم : أن : إما الثناء على الله باللسان ، وإما الاشتغال بالخدمة والطاعة ، وإما طلب المكاشفات والمشاهدات ، فقوله : ( حاصل جميع الكتب الإلهية يرجع إلى أمور ثلاثة الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) كله ثناء على الله ، وقوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) اشتغال بالخدمة والعبودية ، إلا أن الابتداء وقع بقوله : ( إياك نعبد ) وهو إشارة إلى الجد والاجتهاد في العبودية ، ثم قال : ( وإياك نستعين ) وهو إشارة إلى اعتراف العبد بالعجز والذلة والمسكنة والرجوع إلى الله ، وأما قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) فهو طلب للمكاشفات والمشاهدات وأنواع الهدايات .
السبب الثالث لتسمية هذه السورة بأم الكتاب : أن المقصود من جميع العلوم : إما معرفة عزة الربوبية ، أو معرفة ذلة العبودية ، فقوله : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) يدل على أنه هو الإله المستولي على كل أحوال الدنيا والآخرة ، ثم من قوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) إلى آخر السورة يدل على ذل العبودية ، فإنه يدل على أن العبد لا يتم له شيء من الأعمال الظاهرة ولا من المكاشفات الباطنة إلا بإعانة الله تعالى وهدايته .
السبب الرابع : أن العلوم البشرية إما علم ذات الله وصفاته وأفعاله وهو علم الأصول ، وإما علم أحكام الله تعالى وتكاليفه ، وهو علم الفروع ، وإما علم تصفية الباطن وظهور الأنوار الروحانية والمكاشفات الإلهية . بيان هذه الأنواع الثلاثة ، وهذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه ، فقوله : ( والمقصود من القرآن الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) إشارة إلى علم الأصول ؛ لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته ، فقوله : ( رب العالمين ) يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه ربا للعالمين ، وقوله : ( الحمد لله ) إشارة إلى كونه مستحقا للحمد ، ولا يكون مستحقا للحمد إلا إذا كان قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات ، ثم وصفه بنهاية الرحمة - وهو كونه رحمانا رحيما - ثم وصفه بكمال القدرة - وهو قوله : ( مالك يوم الدين ) حيث لا يهمل أمر المظلومين ، بل يستوفي حقوقهم من الظالمين ، وعند هذا تم الكلام في معرفة الذات والصفات وهو علم الأصول ، ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع وهو الاشتغال بالخدمة والعبودية ، وهو قول : ( إياك نعبد ) ثم مزجه أيضا بعلم الأصول مرة أخرى ، وهو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية ، ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات ، وهي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة :
أولها : حصول هداية النور في القلب ، وهو المراد من قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) .
وثانيها : أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم الله عليهم بالجلايا القدسية والجواذب الإلهية ، حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة ، فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى ، وهو قوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) ، وثالثها : أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات ، وهو قوله : ( غير المغضوب عليهم ) وعن أوزار الشبهات ، وهو قوله : ( ولا الضالين ) فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب ؛ فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس ؛ لاشتماله على جميع الحواس والمنافع .
[ ص: 146 ] السبب الخامس : قال الثعلبي : سمعت قال : سمعت أبا القاسم بن حبيب قال : سمعت أبا بكر القفال يقول : الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر ، قال أبا بكر بن دريد قيس بن الخطيم :
نصبنا أمنا حتى ابذعروا وصاروا بعد ألفتهم سلالا
فسميت هذه السورة بأم القرآن ؛ لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة كما أن مفزع العسكر إلى الراية ، والعرب تسمي الأرض أما ؛ لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم ؛ ولأنه يقال : أم فلان فلانا ، إذا قصده .الاسم الرابع : من أسماء هذه السورة " السبع المثاني " قال الله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) . وفي وجوه : - سبب تسميتها بالمثاني
الأول : أنها مثنى : نصفها ثناء العبد للرب ، ونصفها عطاء الرب للعبد .
الثاني : سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة .
الثالث : سميت مثاني لأنها مستثناة من سائر الكتب ، قال عليه الصلاة والسلام : . والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل هذه السورة ، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم
الرابع : سميت مثاني لأنها سبع آيات ، كل آية تعدل قراءتها قراءة سبع من القرآن ، فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ثواب من قرأ كل القرآن .
الخامس : آياتها سبع ، وأبواب النيران سبعة ، فمن فتح لسانه بقراءتها غلقت عنه الأبواب السبعة ، والدليل عليه ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، كنت أخشى العذاب على أمتك ، فلما نزلت الفاتحة أمنت ، قال : لم يا جبريل ؟ قال : لأن الله تعالى قال : ( وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ) [ الحجر : 43 ، 44 ] وآياتها سبع ، فمن قرأها صارت كل آية طبقا على باب من أبواب جهنم ، فتمر أمتك عليها منها سالمين .
السادس : سميت مثاني لأنها تقرأ في الصلاة ، ثم إنها تثنى بسورة أخرى .
السابع : سميت مثاني لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له .
الثامن : سميت مثاني لأن الله أنزلها مرتين . واعلم أنا قد بالغنا في تفسير قوله تعالى : ( سبعا من المثاني ) في سورة الحجر .
الاسم الخامس : الوافية ، كان يسميها بهذا الاسم ، قال سفيان بن عيينة الثعلبي : وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف ، ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرئ نصفها في ركعة والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز ، وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة .
الاسم السادس : الكافية ، سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها ، وأما غيرها فلا يكفي عنها ، روى عن محمود بن الربيع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبادة بن الصامت . أم القرآن عوض عن غيرها ، وليس غيرها عوضا عنها
[ ص: 147 ] الاسم السابع : الأساس ، وفيه وجوه : -
الأول : أنها أول سورة من القرآن ، فهي كالأساس .
الثاني : أنها مشتملة على أشرف المطالب كما بيناه ، وذلك هو الأساس .
الثالث : أن أشرف العبادات بعد الإيمان هو الصلاة ، وهذه السورة مشتملة على كل ما لا بد منه في الإيمان والصلاة ، لا تتم إلا بها .
الاسم الثامن : الشفاء ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي سعيد الخدري فاتحة الكتاب شفاء من كل سم . ومر بعض الصحابة برجل مصروع ، فقرأ هذه السورة في أذنه فبرئ ، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هي أم القرآن ، وهي شفاء من كل داء .
وأقول : الأمراض منها روحانية ، ومنها جسمانية ، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكفر مرضا ، فقال تعالى : ( في قلوبهم مرض ) [ البقرة : 10 ] وهذه السورة مشتملة على معرفة الأصول والفروع والمكاشفات ، فهي في الحقيقة سبب لحصول الشفاء في هذه المقامات الثلاثة .
الاسم التاسع : الصلاة ، قال عليه الصلاة والسلام : . والمراد هذه السورة . يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين
الاسم العاشر : السؤال ، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد فعل الخليل عليه السلام ذلك حيث قال : ( حكى عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال : من شغله ذكري عن سؤالي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين الذي خلقني فهو يهدين ) [ الشعراء : 78 ] إلى أن قال : ( رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ) [ الشعراء : 83 ] ففي هذه السورة أيضا وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه وتعالى وهو قوله : ( الحمد لله ) - إلى قوله : ( مالك يوم الدين ) ثم ذكر العبودية وهو قوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ثم وقع الختم على طلب الهداية وهو قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) وهذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين ، وهو أيضا يدل على أن جنة المعرفة خير من جنة النعيم ؛ لأنه تعالى ختم الكلام هنا على قوله : ( اهدنا ) ولم يقل : ارزقنا الجنة .
الاسم الحادي عشر : سورة الشكر ، وذلك لأنها ثناء على الله بالفضل والكرم والإحسان .
الاسم الثاني عشر : سورة الدعاء ، لاشتمالها على قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) فهذا تمام الكلام في شرح هذه الأسماء ، والله أعلم .