ثم قال تعالى : ( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ) .
واعلم أن هؤلاء القائلين إن كانوا مؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله ، لكن جزعا من الموت وحبا للحياة ، وإن كانوا منافقين فمعلوم أنهم كانوا منكرين لكون الرب تعالى كاتبا للقتال عليهم ، [ ص: 149 ] فقالوا ذلك على معنى أنه تعالى كتب القتال عليهم في زعم الرسول عليه الصلاة والسلام وفي دعواه ، ثم قالوا : ( لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) وهذا كالعلة لكراهتهم لإيجاب القتال عليهم ، أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا ، ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم فقال : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) وإنما قلنا : إن الآخرة خير لوجوه :
الأول : أن . نعم الدنيا قليلة ، ونعم الآخرة كثيرة
والثاني : أن نعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة .
والثالث : أن نعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره ، ونعم الآخرة صافية عن الكدرات .
والرابع : أن نعم الدنيا مشكوكة فإن أعظم الناس تنعما لا يعرف أنه كيف يكون عاقبته في اليوم الثاني ، ونعم الآخرة يقينية ، وكل هذه الوجوه توجب رجحان الآخرة على الدنيا ، إلا أن هذه الخيرية إنما تحصل للمؤمنين المتقين ، فلهذا المعنى ذكر تعالى هذا الشرط وهو قوله : ( لمن اتقى ) وهذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام : " " . الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
ثم قال تعالى : ( ولا تظلمون فتيلا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : ( يظلمون ) بالياء على أنه راجع إلى المذكورين في قوله : ( ألم تر إلى الذين قيل ) والباقون بالتاء على سبيل الخطاب ، ويؤيد التاء قوله : ( قل متاع الدنيا قليل ) فإن قوله : ( قل ) يفيد الخطاب .
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : الآية تدل على أنهم يستحقون على طاعتهم الثواب ، وإلا لما تحقق نفي الظلم ، وتدل على أنه تعالى يصح منه الظلم وإن كنا نقطع بأنه لا يفعل ، وإلا لما صح التمدح به .
المسألة الثالثة : قوله : " ولا يظلمون فتيلا " أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم مثل فتيل النواة وهو ما تفتله بيدك ثم تلقيه احتقارا . وقد مضى الكلام فيه .